الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ( 9 ) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ( 10 ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ( 11 ) )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لموسى : ( إنه أنا الله العزيز ) في نقمته من أعدائه ( الحكيم ) في تدبيره في خلقه ، والهاء التي في قوله : ( إنه ) هاء عماد ، وهو اسم لا يظهر في قول بعض أهل العربية . وقال بعض نحويي الكوفة : يقول هي الهاء المجهولة ، ومعناها : أن الأمر والشأن : أنا الله . وقوله : ( وألق عصاك فلما رآها تهتز ) في الكلام محذوف ترك ذكره استغناء بما ذكر عما حذف ، وهو فألقاها فصارت حية تهتز ( فلما رآها تهتز كأنها جان ) يقول : كأنها حية عظيمة ، والجان : جنس من الحيات معروف .

وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : ( وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ) قال : حين تحولت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عنى الراجز بقوله :


يرفعن بالليل إذا ما أسدفا أعناق جنان وهاما رجفا




وعنقا بعد الرسيم خيطفا

[ ص: 431 ]

وقوله : ( ولى مدبرا ) يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ( ولم يعقب ) يقول : ولم يرجع . من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( ولم يعقب ) قال : لم يرجع .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ولم يعقب ) قال : لم يرجع ( يا موسى ) قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : ( إني لا يخاف لدي المرسلون ) قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : ( أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ) قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : ( سنعيدها سيرتها الأولى ) قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .

وقوله : ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لدي المرسلون . يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أذن له في العمل به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) قال : لا يخيف الله الأنبياء [ ص: 432 ] إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .

واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : ( إني لا يخاف لدي المرسلون ) بقوله : ( فإني غفور رحيم ) . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفي عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا ; فزيد منفي عنه القيام ; ومعناه : إن زيدا لم يقم ، القوم مثبت لهم القيام ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ; لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا ، فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .

وقال بعض نحويي الكوفة يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الآية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا ) يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الآية : لا يخاف لدي المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ) قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم ، إنما [ ص: 433 ] معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر ; فإن وضعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى ; فإذا كانت " سوى " في موضع " إلا " صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله ( إلا من ظلم ثم بدل ) عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جريج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : ( إلا من ظلم ) استثناء صحيح من قوله ( لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته ، وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .

فإن قال قائل فما وجه قيله إن كان قوله ( إلا من ظلم ) استثناء صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ( ثم بدل حسنا بعد سوء ) كلام آخر بعد الأول ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله ( إلا من ظلم ) ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم ، وقيل : فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .

فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت ب ( ثم ) إن لم يكن عطفا على قوله : ( ظلم ) ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ( ثم بدل حسنا بعد سوء ) عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه [ ص: 434 ] من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .

وقوله : ( ثم بدل حسنا بعد سوء ) يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، ( فإني غفور ) يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه ( رحيم ) به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ) ثم تاب من بعد إساءته ( فإني غفور رحيم )

التالي السابق


الخدمات العلمية