الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 423 ] 5- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الأنعام

ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم زعم بعض ناقلي التفسير أنه كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخاف عاقبة الذنوب ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .

قلت: فالظاهر من هذه المعاصي أن المراد بها الشرك ، لأنها جاءت في عقيب قوله: ولا تكونن من المشركين فإذا قدرنا العفو عن ذنب إذا كان لم تقدر المسامحة في شرك لو تصور إلا أنه لما لم يجز في حقه بقي ذكره على سبيل التهديد والتخويف من عاقبته كقوله: لئن أشركت ليحبطن عملك ، فعلى هذا الآية محكمة ، يؤكده أنها خبر ، والأخبار لا تنسخ .

ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: قل لست عليكم بوكيل [ ص: 424 ] للمفسرين فيه قولان: أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة ثم نسخ بآية السيف ، وهذا المعنى في رواية الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .

والثاني: أن معناه لست حفيظا عليكم ، إنما أطلبكم بالظواهر من الإقرار والعمل ، لا بالأسرار ، فعلى هذا هو محكم ، وهذا هو الصحيح يؤكد أنه خبر والأخبار لا تنسخ ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو جعفر النحاس .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم المراد بهذا الخوض: الخوض بالتكذيب ، ويشبه أن يكون الإعراض المذكور هاهنا منسوخا بآية السيف .

[ ص: 425 ] ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء أي من كفر الخائفين وإثمهم ، وقد زعم قوم منهم سعيد بن جبير : أن هذه الآية منسوخة بقوله: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، وأبي مالك في قوله: " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء قالا: نسخها وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الآية قلت: ولو قال هؤلاء أنها منسوخة بآية السيف كان أصلح ، وكان معناها عندهم إباحة مجالستهم وترك الاعتراض عليهم ، والصحيح أنها محكمة ، لأنها خبر وقد بينا أن المعنى: ما عليكم شيء من آثامهم إنما يلزمكم إنذارهم .

[ ص: 426 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا للمفسرين فيه قولان: أحدهما: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب قتادة والسدي .

" أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا عبد الله بن رجاء ، عن همام ، عن قتادة " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، ثم أنزل الله في براءة ، وأمرهم بقتالهم .

والثاني: أنه خرج مخرج التهديد: كقوله تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا ، فعلى هذا هو محكم ، وهذا مذهب مجاهد وهو الصحيح .

[ ص: 427 ] ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: قل الله ثم ذرهم فيه قولان: أحدهما: أنه أمر له بالإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف .

والثاني: أنه تهديد فهو محكم ، وهذا أصح .

ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ فيه قولان: أحدهما: أن هذه الآية تتضمن ترك قتال الكفار ثم نسخت بآية السيف .

والثاني: أن المعنى لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم فهي على هذا محكمة .

[ ص: 428 ] ذكر الآية الثامنة: قوله تعالى: وأعرض عن المشركين روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: هذا ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين فإنه نسخ بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

ذكر الآية التاسعة: قوله تعالى: وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخ بآية السيف ، وعلى ما ذكرنا في نظائرها تكون محكمة .

[ ص: 429 ] ذكر الآية العاشرة: قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ، قال المفسرون: هذه نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف ، لأنها تضمنت الأمر بقتلهم ، والقتل أشنع من السب ، ولا أرى هذه الآية منسوخة ، بل يكره للإنسان أن يتعرض بما يوجب ذكر معبوده بسوء أو بنبيه صلى الله عليه وسلم .

ذكر الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: فذرهم وما يفترون إن قلنا إن هذا تهديد كما سبق في الآية السادسة فهو محكم ، وإن قلنا إنه أمر بترك قتالهم فهو منسوخ بآية السيف .

[ ص: 430 ] ذكر الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قد روي عن جماعة منهم: الحسن ، وعكرمة ، أنهم قالوا: نسخت بقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وهذا غلط ، لأنهم إن أرادوا النسخ حقيقة وليس هذا بنسخ ، وإن أرادوا التخصيص وأنه خص بآية المائدة طعام أهل الكتاب فليس بصحيح ، لأن أهل الكتاب يذكرون الله على الذبيحة ، فيحمل أمرهم على ذلك ، فإن تيقنا أنهم تركوا ذكره جاز أن يكون عن نسيان ، والنسيان لا يمنع الحل ، فإن تركوا لا عن نسيان ، لم يجز الأكل فلا وجه للنسخ أصلا ، ومن قال من المفسرين إن المراد بها لم يذكر اسم الله عليه البتة فقد خص عاما ، والقول بالعموم أصح وعلى قول الشافعي هذه الآية محكمة ، لأنه إما أن يراد بها عنده الميتة أو يكون نهي كراهة .

[ ص: 431 ] ذكر الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون للمفسرين فيها قولان: أحدهما: أن المراد بها ترك قتال الكفار ، فهي منسوخة بآية السيف .

والثاني: أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة وهذا هو الأصح .

ذكر الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: فذرهم وما يفترون فيه قولان: أحدهما: أنه اقتضى ترك قتال المشركين ، فهو منسوخ بآية السيف .

والثاني: أنه تهديد ووعيد فهو محكم .

ذكر الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده [ ص: 432 ] اختلف العلماء في المراد بهذا الحق على قولين: أحدهما: أنه الزكاة .

" أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز ، قال: أبنا أبو محمد الجوهري ، قال: أبنا محمد المظفر ، قال: أبنا علي بن إسماعيل بن حماد ، قال: أبنا أبو حفص عمرو بن علي ، قال: أبنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال: أبنا يزيد بن درهم ، قال: سمعت أنس بن مالك ، يقول: " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: الزكاة المفروضة قال أبو حفص : وبنا معلى بن أسد ، قال: أبنا عبد الواحد بن زياد ، قال: أبنا الحجاج بن أرطأة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: العشر ونصف العشر قال أبو حفص : وأبنا عبد الرحمن ، قال: أبنا إبراهيم بن نافع ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، " وآتوا حقه يوم حصاده قال: الزكاة [ ص: 433 ] قال أبو حفص : وأبنا عبد الرحمن ، قال: أبنا أبو هلال ، عن حيان الأعرج ، عن جابر بن زيد " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: الزكاة قال أبو حفص وأبنا محمد بن جعفر ، قال: أبنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال: سألت الحسن ، عن قوله: " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: الزكاة " .

وهذا قول سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وابن الحنفية ، وعطاء ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، في آخرين ، فعلى هذا الآية محكمة وينبغي على قول هؤلاء أن تكون هذه الآية مدنية لأن السورة مكية ، والزكاة إنما أنزلت بالمدينة .

والثاني: أنه حق غير الزكاة أمر به يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع ، والتمر .

" أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أبنا الجوهري ، قال: أبنا الظفر ، قال: أبنا علي بن إسماعيل ، قال: أبنا أبو حفص ، قال: أبنا يحيى بن سعيد ، قال : [ ص: 434 ] أبنا عبد الملك ، عن عطاء " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: القبضة من الطعام وقال: يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد " وآتوا حقه ، قال: شيء سوى الزكاة في الحصاد والجذاذ إذا حصدوا ، وإذا جذوا وقال أبو حفص : وأبنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال: " إذا حصدوا ألقى إليهم من السنبل ، وإذا جذوا النخل ألقى لهم من الشماريخ فإذا كاله زكاه قال أبو حفص : وأبنا معمر بن سليمان ، قال: أبنا عاصم ، عن أبي العالية : " وآتوا حقه ، قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة " أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: [ ص: 435 ] حدثنا أبي ، قال: أبنا هشيم ، قال: أبنا مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم ، قال: " كانوا يعطون حتى نسختها ، الصدقة العشر أو نصف العشر أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا عبد الله بن سعيد ، قال: أبنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: كانوا إذا حصدوا ، وإذا يبس وإذا غربل أعطوا منه شيئا ، فنسخ ذلك العشر ونصف العشر قال أبو بكر : وأبنا محمد بن بشار ، قال: أبنا يزيد ، قال: أبنا عبد الملك ، عن عطاء " وآتوا حقه يوم حصاده ، قال: ليس بالزكاة ، ولكنه إذا كيل قبض منه قبضات من شهد رضخ له منه .

واختلف العلماء ، هل نسخ ذلك أم لا ؟ إن قلنا أنه أمر وجوب فهو منسوخ بالزكاة ، وإن قلنا إنه أمر استحباب ، فهو باقي الحكم .

[ ص: 436 ] ذكر الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية ، اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين: أحدهما: أن المعنى لا أجد محرما مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا ، قاله طاوس ومجاهد .

والثاني: أنها حصرت المحرم ، فليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها ، ثم اختلف أرباب هذا القول ، فذهب بعضهم إلى أنها محكمة ، وأن العمل على ما ذكر فيها ، فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسا ، ويقرأ هذه الآية ، ويقول: ليس شيء حراما إلا ما حرمه الله في كتابه .

وهذا مذهب عائشة ، والشعبي [ ص: 437 ] ، وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وقد رد قوم هذا القول ، بأن قالوا: كل هذا داخل في الميتة ، وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ ، وزعم قوم: أنها نسخت بآية المائدة ، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير ، وهذا ليس بصحيح ، أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية .

وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخا ، لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار الأحاد ، ولو قيل: إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكما ، كان أصلح ، وإنما الصواب عندنا ، أن يقال: هذه الآية نزلت بمكة ، ولم تكن الفرائض قد تكاملت ولا المحرمات اليوم قد تتامت ، ولهذا قال: في ما أوحي على لفظ الماضي وقد كان حينئذ ، من قال: لا إله إلا الله ثم مات ، دخل الجنة ، فلما جاءت الفرائض والحدود ، وقعت [ ص: 438 ] المطالبة بها ، فكذلك هذه الآية إنما أخبرت بما كان في الشرع من التحريم يومئذ ، فلا ناسخ إذن ولا منسوخ ، ثم كيف يدعى نسخها وهي خبر ، والخبر لا يدخله النسخ .

ذكر الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: قل انتظروا إنا منتظرون للمفسرين فيها قولان: أحدهما: أنها اقتضت الأمر بالكف عن قتالهم ، وذلك منسوخ بآية السيف .

والثاني: أن المراد بها التهديد ، فهي محكمة وهو الصحيح .

[ ص: 439 ] ذكر الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى: لست منهم في شيء للمفسرين في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: لست من قتالهم في شيء ، ثم نسخ بآية السيف ، قاله السدي .

والثاني: ليس إليك شيء من أمرهم ، قاله ابن قتيبة .

والثالث: أنت بريء منهم وهم منك براء ، إنما أمرهم إلى الله سبحانه في الجزاء ، فعلى هذين القولين الآية محكمة .

[ ص: 440 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية