الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ( 20 ) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( 21 ) )

يقول تعالى ذكره : ( وتفقد ) سليمان ( الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد ) . وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير ، ما حدثنا ابن عبد الأعلى ، [ ص: 441 ] قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران عن أبي مجلز ، قال : جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام ، فسأله عن الهدهد : لم تفقده سليمان من بين الطير فقال عبد الله بن سلام : إن سليمان نزل منزلة في مسير له ، فلم يدر ما بعد الماء ، فقال : من يعلم بعد الماء ؟ قالوا : الهدهد ، فذاك حين تفقده .

حدثنا محمد ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس وعبد الله بن سلام بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان بن داود يوضع له ست مائة كرسي ، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ، ثم تجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس قال : ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتحملهم ، قال : فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر ، قال : فبينا هو في مسيره إذ احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض ، قال : فدعا الهدهد ، فجاءه فنقر الأرض ، فيصيب موضع الماء ، قال : ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ، قال : ثم يستخرجون الماء . فقال له نافع بن الأزرق : قف يا وقاق ، أرأيت قولك : الهدهد يجيء فينقر الأرض ، فيصيب الماء ، كيف يبصر هذا ، ولا يبصر الفخ يجيء حتى يقع في عنقه ؟ قال : فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه ، فتفقد الطير . وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أول ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن ماءه ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجن ، فدعا الجن فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء وإن يكن [ ص: 442 ] أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير ، فدعا الطير فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد ، فلم يجده ، قال : فذاك أول ما فقد الهدهد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) قال : تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب ، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال : أين الهدهد ليدلنا على الماء ؟ فلم يجده ; فمن أجل ذلك تفقده ، فقال ابن عباس : إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل ; فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر ، وحال القدر دون البصر ، فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره ، وقال وهب بن منبه : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها ، والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بعد الماء .

وقوله : ( فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) يعني بقوله ( ما لي لا أرى الهدهد ) أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر ؟ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) أخطأه بصري في الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟ .

وقوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) يقول : فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر ، وأنه غائب غير شاهد ، أقسم ( لأعذبنه عذابا شديدا ) وكان تعذيبه الطير فيما ذكر عنه إذا عذبها أن ينتف ريشها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 443 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) قال : نتف ريشه .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) عذابه : نتفه وتشميسه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) قال : نتف ريشه وتشميسه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) قال : نتف ريشه كله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) قال : نتف ريش الهدهد كله ، فلا يغفو سنة .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : نتف ريشه .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) يقول : نتف ريشه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان أنه حدث أن عذابه الذي كان يعذب به الطير نتف جناحه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قيل لبعض أهل العلم : هذا الذبح ، فما العذاب الشديد ؟ . قال : نتف ريشه بتركه بضعة تنزو .

حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) قال : نتفه .

حدثني سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن حسين بن أبي شداد ، قال : نتفه وتشميسه ( أو لأذبحنه ) يقول : أو لأقتلنه . [ ص: 444 ]

كما حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( أو لأذبحنه ) يقول : أو لأقتلنه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عباد بن العوام ، عن حصين ، عن عبد الله بن شداد : ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ) . . . الآية ، قال : فتلقاه الطير ، فأخبره ، فقال : ألم يستثن .

وقوله : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول : أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي بن الحسين الأزدي ، قال : ثنا المعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول : ببينة أعذره بها ، وهو مثل قوله : ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) يقول : بغير بينة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : كل شيء في القرآن سلطان ، فهو حجة .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد الله بن يزيد ، عن قباث بن رزين ، أنه سمع عكرمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، كان للهدهد سلطان .

حدثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) قال : بعذر بين .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) : أي بحجة عذر له في غيبته .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول : ببينة ، وهو قول الله ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) بغير بينة . [ ص: 445 ]

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) قال : بعذر أعذره فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية