الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة اليرموك

فلما تكامل جمع المسلمين باليرموك ، وكانوا سبعة وعشرين ألفا ، قدم خالد في تسعة آلاف ، فصاروا ستة وثلاثين ألفا سوى عكرمة ، فإنه كان ردءا لهم ، وقيل : بل كانوا سبعة وعشرين ألفا وثلاثة آلاف من فلال خالد بن سعيد ، وعشرة آلاف مع خالد بن الوليد ، فصاروا أربعين ألفا سوى ستة آلاف مع عكرمة بن أبي جهل ، وقيل في عددهم غير ذلك . والله أعلم .

وكان فيهم ألف صحابي ، منهم نحو مائة ممن شهد بدرا . وكان الروم في مائتي ألف وأربعين ألف مقاتل ، منهم ثمانون ألف مقيد ، وأربعون ألف مسلسل للموت ، وأربعون ألفا مربطون بالعمائم لئلا يفروا ، وثمانون ألف راجل ، وقيل : كانوا مائة ألف ، وكان قتال المسلمين لهم على تساند ، كل أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد ، حتى قدم خالد بن الوليد من العراق ، وكان القسيسون والرهبان يحرضون الروم شهرا ، ثم خرجوا إلى القتال الذي لم يكن بعده قتال في جمادى الآخرة .

فلما أحس المسلمون بخروجهم أرادوا الخروج متساندين ، فسار فيهم خالد بن الوليد فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا [ ص: 256 ] البغي ، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم ، فإن هذا يوم له ما بعده ، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية وأنتم متساندون ؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي ، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه رأي من واليكم ومحبته . قالوا : هات ، فما الرأي ؟ قال : إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر ، ولو علم بالذي كان ويكون ، لقد جمعكم ، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم ، وأنفع للمشركين من أمدادهم ، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم ، فالله الله ! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لأحد من الأمراء ، ولا يزيده عليه إن دانوا له . إن تأمير بعضكم لا ينتقصكم عند الله ، ولا عند خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلموا ، فإن هؤلاء قد تهيئوا ، وإن هذا يوم له ما بعده ، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم ، وإن هزمونا لم نفلح بعدها . فهلموا فلنتعاور الإمارة ، فليكن بعضنا اليوم ، والآخر بعد غد ، حتى تتأمروا كلكم ، ودعوني أتأمر اليوم .

فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم ، وأن الأمر لا يطول .

فخرجت الروم في تعبية لم ير الراءون مثلها قط ، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك ، فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين ، وقال : إن عدوكم كثير ، وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس . فجعل القلب كراديس ، وأقام فيه أبا عبيدة ، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان ، وكان على كردوس القعقاع بن عمرو ، وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان ، وكان القاضي أبو الدرداء ، وكان القاص أبو سفيان بن حرب ، وعلى الطلائع قباث بن أشيم ، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود .

وقال رجل لخالد : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ! فقال خالد : ما أكثر المسلمين وأقل الروم ، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان ، والله لوددت أن الأشقر - يعني [ ص: 257 ] فرسه - براء من توجيه ، وأنهم أضعفوا في العدد . وكان قد حفي في مسيره .

فأمر خالد عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو فأنشبا القتال ، والتحم الناس وتطارد الفرسان وتقاتلوا ، فإنهم على ذلك قدم البريد من المدينة ، واسمهمحمية بن زنيم ، فسألوه الخبر ، فأخبرهم بسلامة وأمداد ، وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة ، فبلغوه خالدا ، فأخبره خبر أبي بكر سرا .

وخرج جرجة إلى بين الصفين وطلب خالدا ، فخرج إليه ، فآمن كل واحد منهما صاحبه ، فقال جرجة : يا خالد اصدقني ولا تكذبني ، فإن الحر لا يكذب ، ولا تخادعني ، فإن الكريم لا يخادع المسترسل ، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه ، فلا تسله على قوم إلا هزمتهم ؟ قال : لا . قال : ففيم سميت سيف الله ؟ فقال له : إن الله بعث فينا نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكنت فيمن كذبه وقاتله ، ثم إن الله هداني فتابعته ، فقال : أنت سيف الله ، سله الله على المشركين ، ودعا لي بالنصر . قال : فأخبرني إلى ما تدعوني . قال خالد : إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب . قال : فما منزلة من الذي يجيبكم ويدخل فيكم ؟ قال : منزلتنا واحدة . قال : فهل له مثلكم من الأجر والذخر ؟ قال : نعم وأفضل ؛ لأننا اتبعنا نبينا وهو حي ، يخبرنا بالغيب ونرى منه العجائب والآيات ، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ، وأنتم لم تروا مثلنا ولم تسمعوا مثلنا ، فمن دخل بنية وصدق كان أفضل منا . فقلب جرجة ترسه ومال مع خالد وأسلم ، وعلمه الإسلام واغتسل وصلى ركعتين ، ثم خرج مع خالد فقاتل الروم .

وحملت الروم حملة أزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية ، عليهم عكرمة وعمه الحارث بن هشام ، فقال عكرمة يومئذ : قاتلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن ، ثم أفر اليوم ؟ ! ثم نادى : من يبايع على الموت ؟ فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا ، فمنهم من برأ ومنهم من قتل . وقاتل خالد وجرجة قتالا شديدا ، فقتل جرجة عند آخر النهار ، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء ، وتضعضع الروم ، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيله ورجلهم ، فانهزم الفرسان وتركوا الرجالة .

ولما رأى المسلمون خيل الروم قد توجهت للمهرب أفرجوا لها ، فتفرقت وقتل [ ص: 258 ] الرجالة ، واقتحموا في خندقهم ، فاقتحمه عليهم ، فعمدوا إلى الواقوصة حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم ، ثمانون ألفا من المقترنين ، وأربعون ألف مطلق ، سوى من قتل في المعركة ، وتجلل الفيقار وجماعة من أشراف الروم برانسهم وجلسوا ، فقتلوا متزملين . ودخل خالد الخندق ونزل في رواق تذارق . فلما أصبحوا أتي خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحا ، فوضع رأسه على فخذه ، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه ، ومسح وجوههما وقطر في حلوقهما الماء ، وقال : زعم ابن حنتمة - يعني عمر - أنا لا نستشهد ! وقاتل النساء ذلك اليوم وأبلين .

قال عبد الله بن الزبير : كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل ، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناس على تل لا يقاتلون ، فركبت وذهبت إليهم وإذ أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح ، فرأوني حدثا فلم يتقوني ، قال : فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون : إيه بني الأصفر ! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون قال : ويح بني الأصفر ! فلما هزم الله الروم أخبرت أبي فضحك فقال : قاتلهم الله ! أبوا إلا ضغنا ، لنحن خير لهم من الروم !

وفي اليرموك أصيبت عين أبي سفيان بن حرب .

ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص ، فنادى بالرحيل عنها قريبا ، وجعلها بينه وبين المسلمين ، وأمر عليها أميرا كما أمر على دمشق . وكان من أصيب من المسلمين ثلاثة آلاف ، منهم عكرمة وابنه عمرو ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، وجندب بن عمرو ، والطفيل بن عمرو ، وطليب بن عمير ، وهشام بن العاص ، وعياش بن أبي ربيعة ، في قول بعضهم .

( عياش بالياء المثناة والشين المعجمة ) .

وفيها قتل سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي ، وهو من مهاجرة الحبشة .

[ ص: 259 ] وفيها قتل نعيم بن عبد الله النحام العدوي عدي قريش ، وكان إسلامه قبل عمر .

وفيها قتل النضير بن الحارث بن علقمة ، وهو قديم الإسلام والهجرة ، وهو أخو النضر الذي قتل ببدر كافرا .

وقتل فيها أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري أخو مصعب بن عمير ، وهو من مهاجرة الحبشة ، شهد أحدا . وقيل : قتلوا يوم أجنادين . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية