الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون الضمير لأهل مكة ، والاستفهام للتقرير، وكم خبرية في موضع نصب بـ (أهلكنا) و (من القرون) بيان لـ (كم)، وجوز بعض المتأخرين كون (كم) مبتدأ، والجملة بعده خبره، وهو كلام من لا خبر عنده، والجملة معمولة لـ (يروا) نافذ معناها فيها و(كم) معلقة لها عن العمل في اللفظ؛ لأنها - وإن كانت خبرية - لها صدر الكلام كالاستفهامية، فلا يعمل فيها عامل متقدم على اللغة الفصيحة إلا إذا كان حرف جر أو اسما مضافا نحو: على كم فقير تصدقت أرجو الثواب؟ وابن كم رئيس صحبته؟

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الأخفش على ما في البحر جواز تقدم عامل عليها غير ذلك عن بعضهم نحو: ملكت كم غلام؛ أي ملكت كثيرا من الغلمان، عاملوها معاملة كثير؛ والرؤية علمية لا بصرية خلافا لابن عطية ؛ لأنها لا تعلق على المشهور ولأن أهل مكة لم يحضروا إهلاك من قبلهم حتى يروه بل علموه بالأخبار ومشاهدة الآثار، والقرون جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد كعاد وثمود وغيرهم. (أنهم) الضمير عائد على معنى (كم) وهي القرون، أي إن القرون المهلكين (إليهم) أي إلى أهل مكة (لا يرجعون) وأن وما بعدها في تأويل المفرد [ ص: 5 ] بدل من جملة (كم أهلكنا) على المعنى كما نقل عن سيبويه وتبعه الزجاج أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم وكونهم غير راجعين إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل على المعنى؛ لأن الكثرة المذكورة وعدم الرجوع ليس بينهما اتحاد بجزئية ولا كلية ولا ملابسة كما هو مقتضى البدلية، لكن لما كان ذلك في معنى الذين أهلكناهم "وأنهم لا يرجعون" بمعنى "غير راجعين" اتضح فيه البدلية على أنه بدل اشتمال أو بدل كل من كل قاله الخفاجي . وأفاد صاحب الكشف على أنه من بدل الكل بجعل كونهم غير راجعين كثرة إهلاك تجوزا، وعندي أن هذا الوجه - وإن لم يكن فيه إبدال مفرد من جملة وتحقق فيه - مصحح البدلية على ما سمعت ولا يخلو عن تكلف، وسيبويه ليس بنبي النحو ليجب اتباعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السيرافي : يجوز أن يجعل (أنهم)... إلخ صلة أهلكناهم؛ أي أهلكناهم بأنهم لا يرجعون؛ أي بهذا الضرب من الهلاك، وجوز ابن هشام في المغني أن يكون أن وصلتها معمول (يروا)، وجملة (كم أهلكنا) معترضة بينهما، وأن يكون معلقا عن (كم أهلكنا) ، و (أنهم إليهم لا يرجعون) مفعولا لأجله، قال الشمني : ليروا، والمعنى: أنهم علموا لأجل أنهم لا يرجعون إهلاكهم. ورد بأنه لا فائدة يعتد بها فيما ذكر من المعنى. وتعقبه الخفاجي بقوله: لا يخفى أن ما ذكر وارد على البدلية أيضا، والظاهر أن المقصود من ذكره إما التهكم بهم وتحميقهم، وإما إفادة ما يفيد تقديم (إليهم) من الحصر أي أنهم لا يرجعون إليهم بل إلينا فيكون ما بعده مؤكدا له اهـ. وهو كما ترى، وقال الجلبي : لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى (كم) وثانيهما للرسل، وأن وصلتها مفعولا لأجله لـ "أهلكناهم"، والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار (لا يرجعون) على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى. وهو على بعده ركيك معنى، وأرك منه ما قيل: الضميران على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول لمعنى (كم) والثاني لمن نسبت إليه الرؤية، و"أن" وصلتها علة لـ "أهلكنا"، والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبرونهم بما حل بهم من العذاب، وجزاء الاستهزاء حق ينزجر هؤلاء فلذا أهلكناهم، ونقل عن الفراء أنه يعمل (يروا) في (كم أهلكنا) وفي (أنهم) ... إلخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم ابن عطية أن "أن" وصلتها بدل من (كم) ولا يخفى أنه إذا جعلها معمول (أهلكنا) كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك: أهلكنا أنهم لا يرجعون، ولعله تسامح في ذلك، والمراد بدل من (كم أهلكنا) على المعنى كما حكي عن سيبويه ، وأما جعل (كم) معمولة لـ (يروا) والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله، وقال أبو حيان : الذي تقتضيه صناعة العربية أن (أنهم)... إلخ معمول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون، والجملة حال من فاعل (أهلكنا) على ما قال الخفاجي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك.

                                                                                                                                                                                                                                      وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به، وجوز - على بعض الأقوال - أن يكون الضمير في (أنهم) عائدا على من أسند إليه "يروا" وفي (إليهم) عائدا على المهلكين، والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، ويحسن - هذا على الوجه - المحكي عن السيرافي . وقرأ ابن عباس ، والحسن "إنه" بكسر الهمزة على الاستئناف، وقطع الجملة عما قبلها من جهة الإعراب. وقرأ عبد الله (ألم يروا من أهلكنا فإنهم) ... إلخ على قراءة الفتح، بدل اشتمال، ورد بالآية على القائلين بالرجعة كما ذهب إليه الشيعة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 6 ] وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر، عن أبي إسحاق قال: قيل لابن عباس : إن ناسا يزعمون أن عليا - كرم الله تعالى وجهه - مبعوث قبل يوم القيامة؟ فسكت ساعة ثم قال: بئس القوم نحن إن نكحنا نساءه واقتسمنا ميراثه أما تقرأون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية