الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (50) قوله: عادا الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلا وتوجيها، وقد يسر الله تعالى تحرير ذلك كله بحوله وقوته فأقول: إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون "عادا الأولى" بالتنوين مكسورا [ ص: 108 ] وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها، هذا كله في الوصل فإذا وقفوا على "عادا" وابتدءوا بـ "الأولى" فقياسهم أن يقولوا "الأولى" بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية: قرأ قالون "عادا لؤلى" بإدغام التنوين في اللام، ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، وهمز الواو، هذا في الوصل. وأما في الابتداء بالأولى فله ثلاثة أوجه، الأول: "الؤلى" بهمزة وصل، ثم بلام مضمومة، ثم بهمزة ساكنة. الثاني: "لؤلى" بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة. الثالث: كابتداء ابن كثير ومن معه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالثة: قرأ ورش "عادا لولى" بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلة همزة هذا في الوصل. وأما في الابتداء بها فله وجهان: "ألولى" بالهمزة والنقل، و"لولى" بالنقل دون همز وصل، والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابعة: قرأ أبو عمرو كورش وصلا وابتداء سواء بسواء، إلا أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث، وهو وجه ابن كثير ومن ذكر معه، فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثة أوجه، وأن لورش وجهين. فتأمل ذلك فإن تحريره صعب المأخذ من كتب القراءات. هذا ما يتعلق بالقراءات.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما توجيهها فيوقف على معرفة ثلاثة أصول، الأول: حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن. الثاني: حكم حركة النقل. الثالث: أصل "أولى" ما هو؟ أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو: [ ص: 109 ] قل هو الله أحد أو يحذف تشبيها بحرف العلة كقراءة أحد الله الصمد ، وكقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4140 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا ذاكر الله إلا قليلا



                                                                                                                                                                                                                                      وهو قليل جدا، وقد مضى تحقيقه. وأما الثاني: فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين: الاعتداد بالحركة، وعدم الاعتداد بها، وهي اللغة العالية. وأما الثالث: فأولى تأنيث أول، وقد تقدم الخلاف في أصله مستوفى في أول هذا التصنيف فعليك باعتباره. إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول:

                                                                                                                                                                                                                                      أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا "عادا": إما لأنه اسم للحي أو الأب فليس فيه ما يمنعه، وإما لأنه كان مؤنثا اسما للقبيلة أو الأم، إلا أنه مثل هند ودعد فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4141 - لم تتلفع بفضل مئزرها     دعد ولم تسق دعد في العلب



                                                                                                                                                                                                                                      فصرفها أولا ومنعها ثانيا، ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان، فكسروا التنوين لالتقائهما على ما هو المعروف من [ ص: 110 ] اللغتين وحذفوا همزة الوصل من "الأولى" للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلا فإذا ابتدءوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها فقالوا: الأولى كنظيرها من همزات الوصل. وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها، ومن ثم اختارها الجم الغفير.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف وهما نافع وأبو عمرو مع اختلافهما في أشياء كما تقدم بيانه فوجهه الاعتداد بحركة النقل; وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كلام التعريف عاملها معاملتها ساكنة، ولا يعتد بحركة النقل، فيكسر الساكن الواقع قبلها، ولا يدغم فيها التنوين، ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول: لم يذهب لحمر، ورأيت زيادا لعجم، من غير إدغام التنوين، والحمر والعجم بهمزة الوصل لأن اللام في حكم السكون، وهذه هي اللغة المشهورة. ومنهم من يعتد بها، فلا يكسر الساكن الأول، ولا يأتي بهمزة الوصل، ويدغم التنوين في لام التعريف فيقول: لم يذهب لحمر بسكون الباء، ولحمر ولعجم من غير همز، وزياد لعجم بتشديد اللام، وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءة، هذا من حيث الإجمال.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من حيث التفصيل فأقول: أما قالون فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدغام، ولما نقل الحركة اعتد بها، إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما همزه الواو ففيه وجهان منقولان، أحدهما: أن تكون أولى أصلها عنده وؤلى من وأل أي: نجا، كما هو قول الكوفيين، ثم أبدل [ ص: 111 ] الواو همزة لأنها واو مضمومة، وقد تقدم لك أنها لغة مطردة، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فوجب قلبها واوا نحو: "أومن"، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمزة لأنها إنما قلبت واوا من أجل الأولى، وقد زالت، وهذا كما رأيت تكلف لا دليل عليه. والثاني: أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضمة قبل الواو كأنها عليها، لأن حركة الحرف بين يديه، فأبدل الواو همزة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4142 - أحب المؤقدين إلي موسى      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وكقراءة "يؤقنون" وهمز "السؤق" و"سؤقه" وقد تقدم تحرير ذلك، وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضا. وليس في هذا الوجه دليل على أصل "أولى" عنده ما هو؟ فيحتمل الخلاف المذكور جميعه. وأما ابتداؤه الكلمة من غير نقل فإنه الأصل، ولأنه إنما نقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام، ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل. وأما الابتداء له بالنقل فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سنن واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحد الوجهين: ترك الاعتداد [ ص: 112 ] بحركة اللام على ما عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل; إذ الغرض إنما هو جري اللفظ في الابتداء والوصل على سنن واحد، وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه. وعلة ترك الإتيان بالألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعا. ويقوي هذا الوجه رسم "الأولى" في هذا الموضع بغير ألف. والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله، إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده في التخفيف بالإدغام، وليس من أصله الاعتداد بالحركة في نحو ذلك. ألا ترى أنه يحذف الألف في سيرتها الأولى و ويتجنبها الأشقى ولو اعتد بالحركة لم يحذفها. وأما ما جاء عنه في بعض الروايات: قالوا لآن جئت بالحق فإنه وجه نادر معلل باتباع الأثر والجمع بين اللغتين. والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضا، والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة، إذ لا حاجة إلى قصد ذلك في الابتداء، وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملا للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضا، ولا يبتدأ له بالأصل، إذ ليس من أصله ذلك، و"الأولى" في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما أبو عمرو فالعلة له في قراءته في الوصل والابتداء كالعلة [ ص: 113 ] المتقدمة لقالون، إلا أنه يخالفه في همز الواو لأنه لم يعطها حكم ما جاورها، وليست عنده من وأل بل من غير هذا الوجه، كما تقدم لك الخلاف فيه أول هذا الموضوع، ويجوز أن يكون أصلها عنده من وأل أيضا إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغة في التخفيف، أو موافقة لحال ترك النقل، وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءة الإدغام - أبو عثمان، وأبو العباس، ذهابا منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض، ولكن لا التفات إلى ردهما لثبوت ذلك لغة وقراءة، وإن كان غيرها أفصح منها. وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون: الحمر ولحمر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي - وهي في حرفه - "عاد الأولى"، غير مصروف ذهابا إلى القبيلة أو الأم كما تقدم، ففيه العلمية والتأنيث، ويدل على التأنيث قوله: "الأولى" فوصفها بوصف المؤنث.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية