الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [5] ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين

                                                                                                                                                                                                                                      ما قطعتم من لينة أي: نخلة من نخيلهم إغاظة لهم أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله [ ص: 5736 ] أي: أمره ورضاه; لأن ذلك ليس للعبث والإضرار، بل لتأييد قوة الحق، وتصلب أهله، وإرهاب المبطلين وإذلالهم، كما قال تعالى: وليخزي الفاسقين أي: لما فيه من إهانة العدو، وإضعافه ونكايته.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر علماء الأخبار وأئمة السير، أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد. قال الإمام ابن القيم: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم. ومنهم من دخل معه في الظاهر، ومع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.

                                                                                                                                                                                                                                      فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمر به ربه -تبارك وتعالى- فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.

                                                                                                                                                                                                                                      فكانت بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يحاربوه بها. ثم نقض العهد بنو النضير; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ؛ أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، ونزل الوحي على رسول الله صلوات الله عليه بما أراد القوم «فقام ورجع بمن معه من أصحابه على المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم» . ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، فتحصنوا منه في الحصون «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل وتحريقها» ، ثم قذف الله في قلوبهم الرعب، [ ص: 5737 ] وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب ، وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به من شأني» ؟ فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون. ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل به فيهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية