الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ما تقول الفقهاء أئمة الدين في هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبي بعض الذراري والنهب لمن وجدوه من المسلمين وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما " بيت المقدس " وأفسدوا فيه [ ص: 502 ] وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم . وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام ولكونهم عفوا عن استئصال المسلمين . فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه ؟ أفتونا مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ; من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما . فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة .

                وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله : { تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم } فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال . فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة . فمتى كان الدين لغير الله [ ص: 503 ] فالقتال واجب .

                فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها . فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها . وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء .

                وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة - عند من لا يقول بوجوبها - ونحو ذلك من الشعائر . هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟ فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها .

                وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته ; كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته . وأما المذكورون فهم خارجون عن [ ص: 504 ] الإسلام ; بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام وفي قتاله لأهل النهروان : فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك . وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج ; بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة ; فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها .

                على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغي الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ; لا الخارجون عن طاعته . وآخرون يجعلون القسمين بغاة وبين البغاة والتتار فرق بين . فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ; فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافا .

                فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلي إلا قليلا جدا وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة والمسلم عندهم أعظم من غيره [ ص: 505 ] وللصالحين من المسلمين عندهم قدر وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه ; لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها ; فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه ; بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين . فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ; بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع .

                وكذلك أيضا عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم ; إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أي لا يلتزمون تركها وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين . وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات ; لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك . ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله ; بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى . وإنما كان الملتزم لشرائع الإسلام الشيزبرون وهو الذي أظهر من شرائع الإسلام ما استفاض عند الناس . وأما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه .

                [ ص: 506 ] وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم ; فإن هذا السلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبدا . وإذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من أهل البوادي الذين لا يلتزمون شريعة الإسلام يجب قتالهم وإن لم يتعد ضررهم إلى أهل الأمصار فكيف بهؤلاء . نعم يجب أن يسلك في قتاله المسلك الشرعي من دعائهم إلى التزام شرائع الإسلام إن لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم كما كان الكافر الحربي يدعى أولا إلى الشهادتين إن لم تكن الدعوة قد بلغته .

                فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية في رضوان الله وإعزاز كلمته وإقامة دينه وطاعة رسوله وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم في بعض الأمور وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه : كان الواجب أيضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما ; فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها .

                ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر ; فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور ; فإنه لا بد من أحد [ ص: 507 ] أمرين : إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام ; وإن لم يمكن إقامة جميعها . فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها ; بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه .

                وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم { الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم } فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم { الغزو ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل } وما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة } إلى غير ذلك من النصوص التي اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها في جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم ; بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة .

                هذا مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه { سيلي أمراء ظلمة خونة فجرة . فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس مني ولست منه [ ص: 508 ] ولا يرد علي الحوض . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه . وسيرد علي الحوض } .

                فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم : علم أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد كهؤلاء القوم المسئول عنهم مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله ; بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

                وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا . وهي واجبة على كل مكلف . وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا . ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل . والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .




                الخدمات العلمية