الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [9] والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون

                                                                                                                                                                                                                                      والذين تبوءوا الدار والإيمان أي: دار الهجرة، أي: توطنوها والإيمان من قبلهم أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم. وعطف "الإيمان" قيل: بتقدير عامل. أي: وأخلصوا [ ص: 5741 ] الإيمان. وقيل: استعمل التبوء في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكن. والمعنى: لزموا الدار والإيمان. وجوز أيضا تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه، على أنه استعارة بالكناية، ويثبت له التبوء على طريق التخييل.

                                                                                                                                                                                                                                      يحبون من هاجر إليهم أي: لوجود الجنسية في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء. قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا، مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر، كما قيل:


                                                                                                                                                                                                                                      يا أخي واللبيب إن خان دهر يستبين العدو ممن يحب



                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجدون في صدورهم أي: في أنفسهم حاجة أي: طلبا أو حسدا مما أوتوا أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، لسلامة قلوبهم، وطهارتها عن دواعي الحرص.

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أي: حاجة وفاقة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاشاني: لتجردهم وتوجههم إلى جناب القدس، وترفعهم عن مواد الرجس، وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا، باقتضاء الفطرة، وفرط محبة الإخوان بالحقيقة، والأعوان في الطريقة. فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم، لمكان الفتوة، وكمال المروة، ولقوة التوحيد، والاحتراز عن حظ النفس.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      في "الإكليل": في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : هذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      وآتى المال على حبه فإن هؤلاء تصدقوا، وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا المقام تصدق الصديق [ ص: 5742 ] رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك» ؟ فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله! وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل، أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يوق شح نفسه أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق فأولئك هم المفلحون أي: الفائزون بالسعادتين. وفي إضافة الشح إلى النفس إشارة لما قاله القاشاني من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء. والشح من غرائزها المعجونة في طينتها، لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها. ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : الشح في كلام العرب البخل، ومنع الفضل من المال. والعلماء يرون أن الشح في هذا الموضوع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق، ثم روى أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء! قال: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أنه عنى بالعلماء بذلك الأثر; لأنه لم يفسر إلا بالمأثور. ولعل ابن مسعود فسر الآية بذلك، لدلالة سياقها عليه، إذ القصد تزهيد الأنصار في أن تطمح أنفسهم لما جعل للمهاجرين دونهم. أو هو يرى الفرق بين الشح والبخل بما ذكره. وعلى كل فلا يتعين تأويل الآية بما ذكره بل هي مما تحتمله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5743 ] وعن ابن زيد في الآية قال: من وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئا، فهو من المفلحين.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن جرير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم: أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية