الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 542 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 117 ) )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وإذا قضى أمرا ) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه .

وأصل كل "قضاء أمر" الإحكام ، والفراغ منه ، ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : "القاضي" بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به . ومنه قيل للميت : "قد قضى" ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها . ومنه قيل : "ما ينقضي عجبي من فلان" ، يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : "تقضى النهار" ، إذا انصرم ، ومنه قول الله عز وجل : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 ] أي : فصل الحكم فيه بين عباده ، بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) [ سورة الإسراء : 4 ] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب :


وعليهما مسرودتان ، قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع

[ ص: 543 ]

ويروى :


وتعاورا مسرودتين قضاهما



ويعني بقوله : "قضاهما" ، أحكمهما . ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه :


قضيت أمورا ثم غادرت بعدها     بوائق في أكمامها لم تفتق



ويروى : "بوائج" . [ ص: 544 ]

وأما قوله : ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر "كن" ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه : "كن"؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر ، ; وكما محال الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور ، أم يقول له ذلك في حال وجوده ؟ وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود : "كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟

قيل : قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ، ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك :

قال بعضهم : ذلك خبر من الله - جل ثناؤه - عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه [ ص: 545 ] قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه .

فوجه قائلو هذا القول قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، إلى الخصوص دون العموم .

وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها . وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه ، فلما كان ذلك كذلك ، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : "كوني" ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .

وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم ، فتأويلها الخصوص؛ لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور ، على ما وصفت قبل . قالوا : وإذ كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حي ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحي : "كن ميتا ، أو لميت : كن حيا" ، وما أشبه ذلك من الأمر .

وقال آخرون : بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه ، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه ، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة ، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي - . وقالوا : إنما قول الله عز وجل : ( السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل : "قال فلان برأسه" و"قال بيده" ، إذا حرك رأسه ، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا ، وكما قال أبو النجم :


وقالت الأنساع للبطن الحق الحق     قدما فآضت كالفنيق المحنق



ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حممة الدوسي :

فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له : قع

ولا قول هناك ، وإنما معناه : إذا رام طيرانا وقع ، وكما قال الآخر :


امتلأ الحوض وقال : قطني     سلا رويدا ، قد ملأت بطني



قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) [ ص: 547 ] ، أن يقال : هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه؛ لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : "كتاب البيان عن أصول الأحكام" . وإذ كان ذلك كذلك ، فأمر الله - جل وعز - لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : ( كن ) في حال إرادته إياه مكونا ، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه ، إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه ، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك! ونظير قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) قوله : ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) [ سورة الروم : 25 ] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه .

ويسأل من زعم أن قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل : "قال فلان برأسه أو بيده" ، إذا حركه وأومأ ، ونظير قول الشاعر : [ ص: 548 ]


تقول إذا درأت لها وضيني : :     أهذا دينه أبدا وديني



وما أشبه ذلك - : فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ، ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : "كن" ، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة .

وإن قالوا : بل نقر به ، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : "قال الحائط فمال" ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط .

قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟

فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها .

وإن قالوا : ذلك غير جائز .

قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : "قال الحائط فمال" ، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، وقول القائل : "قال الحائط فمال"؟ [ ص: 549 ] وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله .

وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : ( فيكون ) الرفع على العطف على قوله ( يقول ) لأن "القول" و"الكون" حالهما واحد ، وهو نظير قول القائل : "تاب فلان فاهتدى" ، و"اهتدى فلان فتاب" ، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب؛ فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود .

ولذلك استجاز من استجاز نصب "فيكون" من قرأ : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون .

وأما رفع من رفع ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله : ( إذا أردناه أن نقول له كن ) . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله : فيكون ، كما قال جل ثناؤه : ( لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء ) ، [ سورة الحج : 5 ] وكما قال ابن أحمر :


يعالج عاقرا أعيت عليه     ليلقحها فينتجها حوارا

[ ص: 550 ]

يريد : فإذا هو ينتجها حوارا .

فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السماوات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته ، وأنى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : "كن" ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه ، إذ أراد خلقه من غير والد .

التالي السابق


الخدمات العلمية