الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 392 ] ( ( فصل ) ) في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها

وهذا من العقائد السنية التي يجب في اعتقادها ، ولا يجوز نفيها وإهمالها ، ولهذا قال :

( ( وكل خارق أتى عن صالح من تابع لشرعنا وناصح ) )


( ( فإنها من الكرامات التي     بها نقول فاقف للأدلة ) )


( ( ومن نفاها من ذوي الضلال     فقد أتى في ذاك بالمحال ) )


( ( فإنها شهيرة ولم تزل     في كل عصر يا شقا أهل الزلل ) )



( ( وكل خارق ) ) للعادة من الخوارق ، وهي ستة أنواع : ( الأول ) المعجزة وتقدم الكلام عليها ، ( الثاني ) الإرهاص وهو كل خارق تقدم النبوة فهو مقدمة لها ، فالمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوى النبوة ، والإرهاص مقدمة لها قبلها كقصة أصحاب الفيل ، ( الثالث ) الكرامة وهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة ، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ، ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح ، علم بها ذلك العبد الصالح أم لم يعلم ، ( الرابع ) الاستدراج والمكر ، ( الخامس ) المعونة كما يظهر بسبب بعض عوام المسلمين وضعفاء أهل الدين تخليصا لهم من المحن والمكاره ، ( السادس ) الإهانة والاحتقار كما فعل مسيلمة الكذاب من مسحه بيده على رأس غلام فانقرع ، ومن تفله في بئر عذبة ليزداد حلاوة فصار ملحا أجاجا ، ومن الخوارق الفاسدة السحر والشعوذة ونحوهما .

والحاصل أن الكرامة لا بد أن تكون أمرا خارقا للعادة ، ( ( أتى ) ) ذلك الخارق ( ( عن ) ) امرئ ( ( صالح ) ) وهو الولي العارف بالله وصفاته حسب ما يمكن ، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي ، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات من ذكر وأنثى ، ولا بد أن يكون صدور ذلك الخارق في زماننا وبعده وقبله منذ بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ( من ) ) إنسان ( ( تابع لشرعنا ) ) معشر المسلمين ، لأن سائر الشرائع سواه قد نسخت ، وأن يكون الخارق من قبل من ظهر على يديه غير مقارن لدعوى النبوة ، فما لا يكون مقرونا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجا وما [ ص: 393 ] يكون مقرونا بدعوى النبوة يكون معجزة كما تقدم آنفا ، ولاعتبار كون من صدرت عنه الخوارق عارفا مطيعا ظاهر الصلاح ، متابعا لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أشار بقوله ( ( وناصح ) ) لله ولرسوله ولكتابه ولشريعة النبي التي أتى بها عن الله ، وناصح لأئمة المسلمين وخاصتهم وعامتهم ، فإن الدين النصيحة ، فما يصدر من الخوارق المؤكدة لكذب الكذابين وترهات المفترين من قبيل المكر والاستدراج والمحن والاعوجاج ، وأما إذا صدرت عمن ذكر من الصالح الناصح المتابع لشرعنا القويم وديننا المستقيم ( ( فإنها ) ) تكون ( ( من الكرامات التي بها ) ) أي بجوازها ووقوعها ( ( نقول ) ) معشر أهل السنة من السلف والخلف .

قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وكرامة الأولياء حق ، وأنكر الإمام أحمد - رضي الله عنه - على من أنكرها وضلله ، وقال : وتوجد في زمن النبوة وأشراط الساعة وغيرهما ، ولا تدل على صدق من ظهرت على يده فيما يخبر به عن الله تعالى ، ولا على ولايته لجواز سلبها وأن تكون استدراجا له يعني أن مجرد الخارق لا يدل على ذلك ، ولذلك قال : ولا يساكنها ولا يقطع هو بكرامته بها ولا يدعيها ، وتظهر بلا طلبه تشريفا له ظاهرا ، ولا يعلم من ظهرت منه هو أو غيره أنه ولي لله تعالى غالبا بذلك ، وقيل : بلى ولا يلزم من صحة الكرامات ووجودها صدق من يدعيها بدون بينة أو قرائن حالية تفيد الجزم بذلك ، وإن مشى هو على الماء وفي الهواء أو سخرت له الجن والسباع ، حتى تنظر خاتمته وموافقته للشرع في الأمر والنهي .

وإن وجد الخارق من نحو جاهل فهو مخرقة ومكر من إبليس وإغواء وإضلال ، ولا شيء على من ظن الخير بمن يراه منه ، وإن كان في الباطن شيطانا وحسن الظن بأهل الدين والصلاح حسن ( ( فاقف ) ) في اعتقادك الصالح ونهجك أي اتبع ( ( للأدلة ) ) [ ص: 394 ] الشرعية والمشاهدات الحسية والقواطع العقلية ، فإن كرامات الأولياء ثابتة بالعيان والبرهان ، أما أولا فإن وجودها جائز عقلا واقع عيانا وشرعا ، فإن حمل مريم بلا ذكر ، ووجود الرزق عندها بلا سبب من فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف من الخوارق ، وليستا بمعجزتين لعدم شرط المعجزة وهو دعوى النبوة والتحدي فتعين كون ذلك كرامة لها ، وأيضا قصة آصف بن برخيا ، فإن إحضاره لعرش بلقيس في لحظة من مسيرة شهر خارق للعادة حتما ، وأيضا قصة أصحاب الكهف فإن بقاءهم ثلاثمائة سنة بلا آفة من أعظم الخوارق .

وثانيا ما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادا من كرامات الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإلى وقتنا هذا مما ذاع وشاع ، وملأ الآفاق والأسماع ، وضاقت عن إحصائه الدفاتر ، وشهدت بوجوده الأكابر والأصاغر ، ولا ينكره إلا معاند ومكابر ، فلا جرم فهو الحق الصراح الرادع لأهل الإنكار والكفاح .

وهو مع كونه كرامة لمن ظهرت على يديه غالبا ، فهو دليل على صحة نبوة متبوع من ظهرت على يديه وحقية دينه واستقامة نهجه ، ومن ثم قلنا ( ( ومن ) ) أي أي إنسان كائنا من كان ( ( نفاها ) ) أي كرامات الأولياء ، فلم يقل بجوازها فضلا عن وقوعها ( ( من ذوي ) ) أي أصحاب ( ( الضلال ) ) والزيغ عن نهج أهل السنة والاعتزال ، وكذا من نحا نحوهم من أهل السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني ، وأبي عبد الله الحليمي من الأشاعرة ، ( ( فقد أتى في ذاك ) ) النفي وعدم التجويز لها ( ( بالمحال ) ) المنابذ للبرهان والعيان وثبوتها في السنن المتواترة ومحكم القرآن ، فمع هذه الأدلة المتواترة والوقائع المتكاثرة ، فالإنكار لها مكابرة غير منظور إليه ولا معول عليه ، وزعمهم أن الخوارق لو جاز ظهورها من الأولياء لالتبس النبي بغيره ، إذ الفرق ما بينهما إنما هو بالمعجزة ، وبأنها لو ظهرت لكثرت لكثرة الأولياء وخرجت عن كونها خارقة للعادة والغرض كونها خارقا ، فإذا خرجت عن كونها لكثرتها نافت المقصود وخالفته ، ولكونها لو ظهرت لا لغرض التصديق لانسد باب إثبات النبوة بالمعجزة ، لجواز أن يكون ما يظهر من النبي لغرض آخر غير التصديق ، وبأن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور [ ص: 395 ] الخوارق يخل بعظيم قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس ، باطل المأخذ غير صالح للتمسك به والتعويل عليه ، والالتفات له والمصير إليه ، حتى ولو لم تكن الأدلة بكرامة الأولياء طافحة والعيان والبيان والبراهين بها واضحة ، فكيف والأدلة القرآنية والسنن النبوية والآثار السلفية والمشاهدات العيانية أكثر من أن تحصى وأجل وأعظم من أن تستقصى ؟

ولهذا قال معللا لما ارتكبوه في نفيها من المحال : ( ( لأنها ) ) أي كرامات الأولياء كثيرة ( ( شهيرة ) ) للعيان ثابتة بالبرهان ، ( ( ولم تزل ) ) تظهر على يد الأولياء الصالحين وأهل التحقيق العارفين ( ( في كل عصر ) ) من الأعصار الماضية وإلى الآن ، والعصر مثلثة وبضمتين الدهر ويجمع على أعصار وعصور وأعصر وعصر ويطلق على اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس ، وذلك كما تقدم من حكاية قصة مريم وعرش بلقيس وقصة أصحاب الكهف والمشي على الماء كما نقل عن كثير من الأولياء من الصحابة وغيرهم ، كما في قصة العلاء بن الحضرمي من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - ، فإنه لما ذهب إلى البحرين سلكوا مفازة وعطشوا عطشا شديدا حتى خافوا الهلاك ، فنزل فصلى ركعتين ، ثم قال : يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم اسقنا ، فجاءت سحابة فأمطرت حتى ملئوا الآنية وسقوا الركاب ، ثم انطلقوا إلى خليج من البحر ما خيض قبل ذلك اليوم فلم يجدوا سفنا ، فصلى ركعتين ثم قال : يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم أجزنا ، ثم أخذ بعنان فرسه ، ثم قال : جوزوا باسم الله ، قال أبو هريرة : فمشينا على الماء فوالله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر وكان الجيش أربعة آلاف .

والطيران في الهواء كما في قصة جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين - رضي الله عنه - ، وقصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورؤيته لجيش سارية وهو على منبر بالمدينة بنهاوند فنادى وهو على المنبر لأمير الجيش سارية ، فقال : يا سارية الجبل . تحذيرا له من العدو ومكرهم له من وراء الجبل ، وسماع سارية مع بعد المسافة ، وكشرب خالد بن الوليد - رضي الله عنه - السم من غير أن يحصل له تضرر ، وكجريان النيل بكتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وأمثال ذلك من كرامات الصحابة - رضي الله عنهم - مما لا يحصى إلا بكلفة ، وكذلك [ ص: 396 ] كرامات التابعين لهم ومن بعدهم ما هو طافح ومشهور ، لا يمكن رده وإنكاره في غلبة البيان والظهور .

ولذا قال لمن انتحل المحال ( ( يا شقا أهل الزلل ) ) بما ارتكبوه ، ويا خسارتهم لما انتحلوا من رد المحسوس وتكذيبهم للبرهان بوساوس النفوس ، ومكابرتهم لإنكار العيان بمجرد الوهم والهوس ، وقد قال علماؤنا : إن كرامة الولي وظهور الخارق على يده من ( حيث ) كونه من آحاد الأمة معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمته ، لأنه يظهر بتلك الكرامة أنه ولي ولن يكون وليا إلا بكونه محقا في ديانته ، وديانته هي الإقرار بالقلب واللسان والانقياد بالجوارح والأركان لما جاء به نبيه المتبوع ورسوله الذي عليه المعول وإلى ما جاء به الرجوع ، والطاعة لأوامره والانتهاء عن زواجره في السر والإعلان ، حتى لو ادعى هذا الذي ظهرت على يده الكرامة الاستقلال بنفسه وعدم المتابعة لم يكن وليا ولم يظهر الخارق على يده ، ولو فرض ظهوره فهو حينئذ من قبيل الاستدراج .

والحاصل أن الأمر الخارق للعادة فهو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله أو من قبل آحاد أمته ، وهو بالنسبة للولي كرامة لخلوه عن دعوى نبوة من ظهر ذلك من قبله ، فالنبي لا بد من علمه بكونه نبيا ، ومن قصد إظهار خوارق العادات وظهور المعجزات ، وأما الولي فلا يلزم أن يعلم بولايته ويستر كرامته ويسرها ، ويجتهد على إخفاء أمره كما تقدمت الإشارة إلى ذلك كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية