الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2169 [ ص: 121 ] 3 - باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز

                                                                                                                                                                                                                              2289 - حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها. فقال: " هل عليه دين؟ ". قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئا؟ ". قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها. قال: "هل عليه دين؟ ". قيل: نعم. قال: "فهل ترك شيئا؟ ". قالوا: ثلاثة دنانير. فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها. قال: "هل ترك شيئا؟ ". قالوا: لا. قال: "فهل عليه دين؟ ". قالوا: ثلاثة دنانير. قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله، وعلي دينه. فصلى عليه. [2295 - فتح: 4 \ 466]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث سلمة بن الأكوع: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها. فقال: "هل عليه دين؟ ". قالوا: لا... إلى أن قال: ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها. قال: "هل ترك شيئا؟ ". قالوا: لا. قال: "فهل عليه دين؟ ". قالوا: ثلاثة دنانير. قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: صل عليها يا رسول الله، وعلي دينه. فصلى عليه.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث من أفراده، وهو أحد ثلاثياته، وللترمذي مصححا عن أبي قتادة لما قال: هو علي يا رسول الله، قال: "بالوفاء؟ " قال: بالوفاء. ولابن ماجه: فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به. ولأبي داود من حديث جابر: قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله. [ ص: 122 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفي الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن جابر فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريء" قال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول: "ما صنعت الديناران" حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول الله. قال: "الآن حين بردت عليه جلده" وللطحاوي مثله، وفيه: فقال أبو اليسر أو غيره: هو علي.

                                                                                                                                                                                                                              وللطبراني من حديث أسماء فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا رسول الله وللدارقطني من حديث علي نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك؛ فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              ترجم البخاري على الحوالة وذكر حديثا في الضمان؛ لأن الحوالة والحمالة عند بعض العلماء معناهما متقارب، وهو قول ابن أبي ليلى، وإليه ذهب أبو ثور؛ فلهذا أجاز أن يعبر عن الضمان بما حال؛ لأنه كله نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر، ونقل ما على رجل من دين إلى آخر.

                                                                                                                                                                                                                              والحمالة في حديث أبي قتادة براءة لذمة الميت فصار كالحوالة سواء.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في الرجل يضمن دينا معلوما عن ميت بعد موته ولم يترك الميت وفاء، فقالت طائفة: إن الضمان له لازم، ترك الميت شيئا أم لا، هذا قول ابن أبي ليلى، وبه قال مالك والشافعي . [ ص: 123 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : لا ضمان على الكفيل؛ لأن الدين قد توي، فإن ترك شيئا ضمن الكفيل بقدر ما ترك، فإن ترك وفاء فهو ضامن لجميع ما تكفل به. قال ابن المنذر : فخالف الحديث، وفي امتناعه - عليه السلام - أن يصلي عليه قبل ضمان أبي قتادة وصلاته عليه بعده البيان الواضح على صحة ضمانه، وأن من ضمن عن ميت دينا فهو له لازم ترك الميت شيئا أم لا؛ لأنهم قالوا له: ما ترك وفاء.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه حجة على أبي حنيفة أيضا في قوله أنه لا تصح الكفالة بغير قبول الطالب، وخالفه أبو يوسف فقال: الكفالة جائزة كان له مخاطب أو لم يكن. وقال ابن القاسم : لا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وأراه لازما. وأجازه الشافعي إذا عرف مقدار ما تكفل به.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي : قد أجاز - عليه السلام - ضمان أبي قتادة من غير قبول المضمون له، فدل على صحة قول أبي يوسف.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              اختلفوا إذا تكفل عن رجل بمال هل للطالب أن يأخذ ممن شاء منهما. فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ أيهما شاء من المطلوب أو من الكفيل حتى يستوفي حقه، وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يأخذ الكفيل إلا أن [ ص: 124 ] يفلس الغريم أو يغيب. وقالت طائفة: الكفالة والحوالة والضمان سواء، ولا يجوز أن يكون شيء واحد عن اثنين على كل واحد منهما، هذا قول أبي ثور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي ليلى : إذا ضمن الرجل عن صاحبه مالا تحول على الكفيل وبرئ صاحب الأصل إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، واحتج ببراءة الميت من الدين بضمان أبي قتادة؛ ولذلك صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              وحجة مالك أن يأخذ الذي عليه الحق فإن وفى بالدين وإلا أخذ ما نقصه من الحميل، فلأن الذي عليه الحق قد أخذ عوض ما يؤخذ منه ولم يأخذ الحميل عوض ما يؤخذ منه، وإنما دخل على وجه المكرمة والثواب فكافت التبدئة بالذي عليه الحق أولى إلا أن يكون الذي عليه الحق غائبا أو معدما فإنه يؤخذ من الحميل، فإنه معذور في أخذه في هذه الحال.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال : وهذا قول حسن، والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء، وحجة هذا القول الحديث السالف عن رواية الطحاوي، فإن فيه: فجاءه من الغد يتقاضاه فقال: إنما كان ذلك أمس، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه، فدل أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل عنه، وأن للطالب أن يأخذ بعد الكفالة أيهما شاء، ولما كان الضامن يلزمه إذا ضمن كما يلزم المديان أداء ما عليه كان صاحب الحق مخيرا أن يأخذ ممن شاء منهما. [ ص: 125 ]

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              تركه - عليه السلام - الصلاة على المديان إنما هو أدب للأحياء لئلا يستأكلوا أموال الناس فتذهب، وكان هذا في أول الإسلام قبل الفتوح الذي جعل الله منه نصيبا لقضاء دين المسلم فلما فتحت قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته" أخرجاه من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وهذه عقوبة في أمور الدين أصلها المال، فلما جاز أن يعاقب في طريق دينه على سبب المال جاز أن يعاقب في المال على سبيل الدين، كما توعد - عليه السلام - من لم يخرج إلى المسجد أن يحرق بيته، وسيأتي ناسخه في آخر باب من تكفل عن ميت دينا إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              لا رجوع إذا ضمن عن الميت في التركة لتطوعه، خلافا لمالك إن ادعى الرجوع.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه إشعار بصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة، وأبعد بعضهم فقال: إنما كان يمتنع من دين غير جائز، والصواب ما قدمناه.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة السالف صريح في نسخ المنع، وفي رواية [ ص: 126 ] للحازمي وإن قال: إنها غير محفوظة إلا أنه جيد في باب المتابعات من حديث ابن عباس أنه لما امتنع من الصلاة جاءه جبريل فنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله - عز وجل - يقول: إنما الظالم عندي في الديون التي حملت في البغي والإسراف والمعصية، وأما المتعفف ذو العيال فأنا ضامن أن أؤدي عنه، فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعد ذلك: "من ترك ضياعا... " الحديث، وقيل: نسخه قوله تعالى: والغارمين [التوبة: 60] ذكر أن ذلك في الأحياء، وقيل: فيهما، قاله ابن حبيب .

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قضاء دين الميت المعسر كان من خصائصه وفي الإمام بعده وجه لسد رمقه، وإن كان يحتمل - كما قال القرطبي - أنه يكون تبرعا من مكارم أخلاقه، وقيل: كان يقضيه من ماله.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال في باب من تكفل عن ميت دينا: فإن لم يعط الإمام عنه شيئا وقع القصاص منه في الآخرة ولم يحبس الميت عن الجنة بدين له مثله في بيت المال؛ إلا أن يكون دينه أكثر مما له بيت المال، وإن لم يتعين عنده مال فمن ماله، يعلمه الذي أحصى كل شيء عددا، ومحال أن يحبس عن الجنة من له الحسنات عند من ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه في الدنيا مما يفي بدينه. [ ص: 127 ]

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة:

                                                                                                                                                                                                                              الجنازة. بالكسر للسرير، وبالفتح للميت وقيل: عكسه، وقيل: لغتان كما سلف في موضعه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في الأولى: ("هل ترك شيئا؟ ") قال الداودي : لا أراه محفوظا؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين لا يسأل عما ترك.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن ضمان الدين عن الميت يبرأ به؛ لأنه صلى عليه إذ ذاك.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : وفيه فساد قول من قال: إن المؤدي عنه يملكه أولا على الضامن؛ لأن الميت المضمون عنه الدين لا يصح له ملك، وهذا نسب إلى مالك .



                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية