الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 78 ]

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين: إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء ، وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) [الذاريات: 22] وقال بعضهم: المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار , ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض; لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار، فأما من أقر به فلا حاجة به إلى شيء منها.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( بقدر ) فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فأسكناه في الأرض ) قيل: معناه : جعلناه ثابتا في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار: سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج، ويرفع أيضا القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) أي: كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب "الكشاف": وقوله: ( على ذهاب به ) من أوقع النكرات وأخرها للفصل. والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب، وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله : ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) [الملك : 30] ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال: ( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب ) وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما; فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا، وقوله: ( لكم فيها فواكه كثيرة ) أي: في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب، ففيها الفواكه الكثيرة, وقوله: ( ومنها تأكلون ) قال صاحب "الكشاف": يجوز أن يكون هذا من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وشجرة تخرج من طور سيناء ) فهو عطف على (جنات) وقرئت مرفوعة على الابتداء, أي: ومما أنشأنا لكم شجرة، قال صاحب "الكشاف": طور سيناء وطور سينين ، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث; لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون [ ص: 79 ] ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح لم يصرفه; لأن ألفه للتأنيث كصحراء، وقيل: هو جبل فلسطين ، وقيل: بين مصر وأيلة، ومنه نودي موسى عليه السلام . وقرأ الأعمش (سينا) على القصر.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( تنبت بالدهن ) فهو في موضع الحال، أي: تنبت وفيها الدهن، كما يقال: ركب الأمير بجنده، أي: ومعه الجند, وقرئ (تنبت) وفيه وجهان.

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت ، قال زهير :


                                                                                                                                                                                                                                            رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل



                                                                                                                                                                                                                                            والثاني: أن مفعوله محذوف، أي: تنبت زيتونها وفيه الزيت، قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل; لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت، ولأن معظمها هناك. أما قوله : ( وصبغ للآكلين ) فعطف على الدهن، أي: إدام للآكلين، والصبغ والصباغ ما يصطبغ به، أي: يصبغ به الخبز، وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة; لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية