الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 104 ] 374 - باب بيان مشكل ما روي في الشهب التي أرسلت على مستمعي أخبار السماء الدنيا من الشياطين عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان من ذلك شيء قبل مبعثه أم لا ؟ .

2330 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، ائتوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك النفر فرجعوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه [ ص: 105 ] صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، وقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فذلك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا . فأنزل الله عز وجل على نبيه : قل أوحي إلي أنه استمع نفر . وإنما أوحي إليه قول الجن .

[ ص: 106 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ما قد دل على أن الشهب التي كانت أرسلت على الشياطين حينئذ ومنعتهم من خبر السماء مما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك .

[ ص: 107 ]

2331 - حدثنا ابن أبي مريم قال : حدثنا الفريابي قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، وأما الكلمة فتكون حقا .

وأما ما زادوا فيكون باطلا ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا إلا لأمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين ، قال : أراه قال : بأعلى مكة ، شك الفريابي ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض
.

قال أبو جعفر : ففي هذا أيضا ما قد حقق ما قد ذكرنا لقول ابن عباس فيه : ولم يكن يرمى بها قبل ذلك .

فقال قائل : وأنتم تروون عن ابن عباس ما يخالف ما رويتم عنه في هذين الحديثين مما ذكره عن رجال من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 108 ]

2332 - فذكر ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا بشر بن بكر قال : أخبرني الأوزاعي ، عن ابن شهاب قال : أخبرني علي بن حسين أن عبد الله بن عباس قال : أخبرني رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ؟ قالوا : الله عز وجل ورسوله أعلم ، كنا نقول : ولد الليلة رجل عظيم ، ومات الليلة رجل عظيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا حياته ، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ، قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، فيستخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم ويرمون به ، فما جاؤوا به على وجه فهو حق ولكنهم يرقون فيه ويزيدون .

[ ص: 109 ]

2333 - وما قد حدثنا يونس قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني علي بن الحسين أن ابن عباس قال : أخبرني رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار ، ثم ذكر مثله غير أنه لم يذكر : ويرمون .

2334 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا كثير بن عبيد ، عن محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ثم ذكر بإسناده مثله .

قال : ففي هذا الحديث إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد كان يرمى [ ص: 110 ] بها في الجاهلية .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن الذي كانوا يرمون به في الجاهلية قد يحتمل أن يكون كان في خاص من الأوقات ، ثم كان بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأوقات كلها ، ويدل على ذلك قول الله عز وجل في إخباره عن الجن بقولهم : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع . يعنون قبل أن يروا الشهب التي رأوها بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . أي : أنه لا يستطيع مثل ما كان يستطيعه قبل ذلك من الاستماع مع الشهب التي حدثت مما يمنع من ذلك .

ومن ذلك قوله عز وجل : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ..إلى قوله : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب . أي : أنهم مدحورون ممنوعون من ذلك ، والواصب الدائم أي : أنه دائم غير منقطع ، ومن ذلك قوله عز وجل : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير .

وذلك كله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ما قد دل على أن ما كان من ذلك الجنس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقطعهم عن المعاودة لما كانوا يرمون من أجله ، وأن ما حدث من ذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبخلاف ذلك ، ويؤكد ذلك ما حكى الله عز وجل عن الجن من قوله : فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . أي : أن الأمر الذي قد حرست به ليس مما كان [ ص: 111 ] قبل ذلك في شيء وأنه قد منعنا مما كنا واصلين إليه قبل ذلك من ذلك الجنس .

فقال قائل : فقد روي عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على خلاف هذا .

2335 - فذكر ما قد حدثنا يونس قال : أنبأنا ابن وهب قال : أخبرني محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال : سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : ليسوا بشيء ، فقالوا : يا رسول الله فإنهم يخبرونا بالشيء أحيانا فيكون حقا ، قال : تلك الكلمة من الجن يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة ، فيزيدون فيه أكثر من مائة كذبة .

[ ص: 112 ] [ ص: 113 ] [ ص: 114 ]

2336 - وما قد حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن أبي الحسن بن زبالة المدني قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ثم ذكر بإسناده مثله ، غير أنه لم يقل فيه : قر الدجاجة .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن هذا مما قد يحتمل أن يكونوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما أجابهم به مما في هذا الحديث قبل ما ذكر في حديث ابن عباس عن رجال من الأنصار ، ثم كان ما في حديث ابن عباس هذا ، فنسخ ذلك ، فبان بحمد الله ونعمته أن لا تضاد في شيء من هذه الآثار التي ذكرناها في هذا الباب ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية