الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ( 31 ) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 32 ) ) [ ص: 574 ]

يقول تعالى ذكره : نودي موسى : ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك ) فألقاها موسى ، فصارت حية تسعى .

( فلما رآها ) موسى ( تهتز ) يقول : تتحرك وتضطرب ( كأنها جان ) والجان واحد الجنان ، وهي نوع معروف من أنواع الحيات ، وهي منها عظام . ومعنى الكلام : كأنها جان من الحيات ( ولى مدبرا ) يقول : ولى موسى هاربا منها .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولى مدبرا ) فارا منها ، ( ولم يعقب ) يقول : ولم يرجع على عقبه .

وقد ذكرنا الرواية في ذلك ، وما قاله أهل التأويل فيما مضى ، فكرهنا إعادته ، غير أنا نذكر في ذلك بعض ما لم نذكره هنالك .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولم يعقب ) يقول : ولم يعقب ، أي لم يلتفت من الفرق .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( ولم يعقب ) يقول : لم ينتظر .

وقوله : ( يا موسى أقبل ولا تخف ) يقول تعالى ذكره : فنودي موسى : يا موسى أقبل إلي ولا تخف من الذي تهرب منه ( إنك من الآمنين ) من أن يضرك ، إنما هو عصاك .

وقوله : ( اسلك يدك في جيبك ) يقول : أدخل يدك ، وفيه لغتان : سلكته ، وأسلكته ( في جيبك ) يقول : في جيب قميصك .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( اسلك يدك في جيبك ) : أي في جيب قميصك .

وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله أمر أن يدخل يده في الجيب دون الكم .

وقوله : ( تخرج بيضاء من غير سوء ) يقول : تخرج بيضاء من غير برص .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن المفضل ، قال : ثنا قرة بن خالد ، عن الحسن ، في قوله : ( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) قال : فخرجت كأنها المصباح ، فأيقن موسى أنه لقي ربه .

وقوله : ( واضمم إليك جناحك ) يقول : واضمم إليك يدك .

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : [ ص: 575 ] قال ابن عباس ( واضمم إليك جناحك ) قال : يدك .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ( واضمم إليك جناحك ) قال : وجناحاه : الذراع . والعضد : هو الجناح . والكف : اليد ، اضمم ( يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ) .

وقوله : ( من الرهب ) يقول : من الخوف والفرق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الحية .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( من الرهب ) قال : الفرق .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) : أي من الرعب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( من الرهب ) قال : مما دخله من الفرق من الحية والخوف ، وقال : ذلك الرهب ، وقرأ قول الله : ( يدعوننا رغبا ورهبا ) قال : خوفا وطمعا .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والبصرة : " من الرهب " بفتح الراء والهاء . وقرأته عامة قراء الكوفة : " من الرهب " بضم الراء وتسكين الهاء ، والقول في ذلك أنهما قراءتان متفقتا المعنى مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقوله : ( فذانك برهانان من ربك ) يقول تعالى ذكره : فهذان اللذان أريتكهما يا موسى من تحول العصا حية ، ويدك وهي سمراء بيضاء تلمع من غير برص ، برهانان : يقول : آيتان وحجتان . وأصل البرهان : البيان ، يقال للرجل يقول القول إذا سئل الحجة عليه : هات برهانك على ما تقول : أي هات تبيان ذلك ومصداقه . [ ص: 576 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( فذانك برهانان من ربك ) العصا واليد آيتان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( فذانك برهانان من ربك ) تبيانان من ربك .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( فذانك برهانان من ربك ) هذان برهانان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فذانك برهانان من ربك ) فقرأ : ( هاتوا برهانكم ) على ذلك آية نعرفها ، وقال : ( برهانان ) آيتان من الله .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( فذانك ) فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى ابن كثير وأبي عمرو : ( فذانك ) بتخفيف النون ، لأنها نون الاثنين ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : " فذانك " بتشديد النون .

واختلف أهل العربية في وجه تشديدها ، فقال بعض نحويي البصرة : ثقل النون من ثقلها للتوكيد ، كما أدخلوا اللام في ذلك . وقال بعض نحويي الكوفة : شددت فرقا بينها وبين النون التي تسقط للإضافة ، لأن هاتان وهذان لا تضاف . وقال آخر منهم : هو من لغة من قال : هذاآ قال ذلك ، فزاد على الألف ألفا ، كذا زاد على النون نونا ليفصل بينهما وبين الأسماء المتمكنة ، وقال في ( ذانك ) إنما كانت ذلك فيمن قال : هذان يا هذا ، فكرهوا تثنية الإضافة فأعقبوها باللام ، لأن الإضافة تعقب باللام . وكان أبو عمرو يقول : التشديد في النون في " ذانك " من لغة قريش .

يقول : ( إلى فرعون وملئه ) إلى فرعون وأشراف قومه ، حجة عليهم ، ودلالة على حقيقة نبوتك يا موسى ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) يقول : إن فرعون وملأه كانوا قوما كافرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية