الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .

بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم ؛ فرع عليه أمر نبيئه - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم ذلك ؛ لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو [ ص: 117 ] التولي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإعراض إعراضا عنهم فإن الإعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب من تولى الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفا بقوله ما ضل صاحبكم وما غوى وقوله أفرأيتم اللات والعزى والمخبر عنهم بقوله إن يتبعون إلا الظن إلخ وقوله إن الذين لا يؤمنون بالآخرة إلخ .

والإعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه ; فأما الإعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله ، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال .

وحقيقة الإعراض : لفت الوجه عن الشيء ؛ لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد ؛ لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه .

وحقيقة التولي : الإدبار والانصراف ، وإعراض النبيء - صلى الله عليه وسلم - عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم ؛ لأنهم لم يقبلوا الإرشاد وإلا فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - مأمور بإدامة دعوتهم للإيمان ، فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها ، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون ، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن ، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال .

وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء وقوله وأعرض عن المشركين في سورة الأنعام ، فضم إليه ما هنا .

وماصدق من تولى القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ " من " ألا ترى قوله ذلك مبلغهم بضمير الجمع .

وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار فقيل فأعرض عن من تولى عن ذكرنا دون : فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه .

[ ص: 118 ] والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن .

ومعنى ولم يرد إلا الحياة الدنيا كناية عن عدم الإيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله ذلك مبلغهم من العلم ؛ لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادوها ولو ببعض أعمالهم .

وجملة ذلك مبلغهم من العلم اعتراض وهو استئناف بياني بين به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة ؛ لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل ، وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم .

وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل وعلتها في قوله إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله الآية .

وأعني حاصل قوله ولم يرد إلا الحياة الدنيا .

وقوله ذلك : إشارة إلى المذكور في الكلام السابق من قوله ولم يرد إلا الحياة الدنيا استعير للشيء الذي لم يعلموه اسم الحد الذي يبلغ إليه السائر فلا يعلم ما بعده من البلاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية