الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين ]

والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين ، فأي الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته ، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم ; وأما أهل العراق فلا يحلفون إلا المدعى عليه وحده ، فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ; والجمهور يقولون : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين ، وثبت عنه أنه عرض الأيمان في القسامة على المدعين أولا ، فلما أبوا جعلها من جانب المدعى عليهم ، وقد جعل الله سبحانه أيمان اللعان من جانب الزوج أولا ، فإذا نكلت المرأة عن معارضة أيمانه بأيمانها وجب عليها العذاب بالحد ، وهو العذاب المذكور في قوله : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } فإن المدعي لما ترجح جانبه بالشاهد الواحد شرعت اليمين من جهته ، وكذلك أولياء الدم ترجح جانبهم باللوث فشرعت اليمين من جهتهم وأكدت بالعدد تعظيما لخطر النفس ، وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح من جانب المرأة قطعا ، فإن إقدامه على إتلاف فراشه ، ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد ، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة ، وفضيحة أهله ونفسه على رءوس الأشهاد ، مما يأباه طباع العقلاء ، وتنفر عنه نفوسهم ، لولا أن الزوجة اضطرته بما رآه وتيقنه منها إلى ذلك ; فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعا ، فشرعت اليمين من جانبه ، ولهذا كان القتل في القسامة واللعان وهو قول أهل المدينة ; فأما فقهاء العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا ، وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان ، [ ص: 80 ] والشافعي يقتل باللعان دون القسامة ، وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه } فإن هذا إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى ، فإنه لا يقضي له بمجرد الدعوى ، فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه ، بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين ; وقد حكم سليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجح جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضي الأخرى بقتله ، ولم يلتفت إلى إقرارها للأخرى به .

وقوله : " هو ابنها " ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث " التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل " ليستبين به الحق ، ثم ترجم ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال : " الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به " فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفطر بها منها ; ولعمر الله إن هذا العلم النافع لا خرص الآراء وتخمين الظنون .

فإن قيل : ففي القسامة يقبل مجرد أيمان المدعين ، ولا تجعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل ; وفي اللعان ليس كذلك ، بل إذا حلف الزوج مكنت المرأة أن تدفع عن نفسها بأيمانها ، ولا تقتل بمجرد أيمان الزوج ، فما الفرق ؟ قيل : هذا من كمال الشريعة وتمام عدلها ومحاسنها فإن المحلوف عليه في القسامة حق لآدمي ، وهو استحقاق الدم ، وقد جعلت الأيمان المكررة بينة تامة مع اللوث ، فإذا قامت البينة لم يلتفت إلى أيمان المدعى عليه ، وفي اللعان المحلوف عليه حق لله وهو حد الزنا ، ولم يشهد به أربعة شهود ، وإنما جعل الزوج أن يحلف أيمانا مكررة ومؤكدة باللعنة أنها جنت على فراشه وأفسدته ، فليس له شاهد إلا نفسه ، وهي شهادة ضعيفة ، فمكنت المرأة أن تعارضها بأيمان مكررة مثلها ، فإذا نكلت ولم تعارضها صارت أيمان الزوج مع نكولها بينة قوية لا معارض لها ; ولهذا كان الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة ، وأكدت بالخامسة هي الدعاء على نفسه باللعنة إن كان كاذبا ، ففي القسامة جعل اللوث وهو الأمارة الظاهرة الدالة على أن المدعى عليهم قتلوه شاهدا ، وجعلت الخمسين يمينا شاهدا آخر ، وفي اللعان جعلت أيمان الزوج كشاهد ونكولها كشاهد آخر .

[ لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلا ] .

والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق ألبتة على شهادة ذكرين ، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود ، بل قد حد الخلفاء الراشدون [ ص: 81 ] والصحابة رضي الله عنهم في الزنا بالحبل ، وفي الخمر بالرائحة والقيء ، وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبل والرائحة في الخمر ، وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبل والرائحة ، بل أولى ، فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة ; وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة ، والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجويز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير ، فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى ، فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد ، وهو من أعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته ومطابقته لمصالح العباد ، وحكمة الرب وشرعه ، وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي بين القائلين .

[ لم يرد الشارع خبر العدل ]

والمقصود أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يرد خبر العدل قط ، لا في رواية ولا في شهادة ، بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به ، كما قبل شهادته لأبي قتادة بالقتيل ، وقبل شهادة خزيمة وحده ، وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان ، وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة ، وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه ، ولا فرق بينه وبين الشهادة فإن كلا منهما عن أمر مستند إلى الحس والمشاهدة ، فتميم شهد بما رآه وعاينه ، وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه وقبل خبره ، فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم ؟ وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد ، وهو شهادة منه بدخول الوقت ، وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره ، وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره .

[ جانب التحمل غير جانب الثبوت ]

وسر المسألة أن لا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت ; فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبدا ، وقد ذم الله في كتابه من كذب بالحق ، ورد الخبر الصادق تكذيب بالحق وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها ، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق ، بل بالتثبيت والتبيين ، فإن ظهرت الأدلة على صدقه قبل خبره ، وإن ظهرت الأدلة على كذبه رد خبره ، وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الدليل المشترك الذي استأجره ليدله [ ص: 82 ] على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته ; فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر ، ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان ، قال عبد الله بن صالح : ثنا الليث بن سعد عن ابن عجلان عن ابن شهاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كل يوم قلما يخطئه أن يقول ذلك : الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن ، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر ، فيوشك أحدهم أن يقول : قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم ; فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ، فتلقوا الحق عن من جاء به ، فإن على الحق نورا ، قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا ، فاحذروا زيغته ، ولا يصدنكم عنه ، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق ، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة .

والمقصود أن الحاكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها ، والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع ثم يحكم فيه بما يجب ، فالأول مداره على الصدق والثاني مداره على العدل ، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا والله عليم حكيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية