الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل في جريان الماء بين أصابعه :

37 - أخبرنا أحمد بن زاهر الطوسي ، أنا محمد بن إبراهيم الفارسي ، ثنا محمد بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا هارون بن معروف ومحمد ابن عباد حدثني وتقاربا في لفظ الحديث والسياق لهارون قالا ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا وكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي ياعم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل كان لي على فلان الحزامي فأتيت أهله فسلمت عليه فقلت ثم هو قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت أين أبوك قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأن أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسرا قال قلت آالله قال آالله قلت آالله قال آالله قلت آالله قال آالله فقال بصحيفته فمحاها بيده فقال فإن وجدت قضاء فاقض وإلا أنت في حل فأشهد بصر عيني هاتين ووضع إصبعه على عينيه وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله قال فقلت له أنا يا عم لو أنك أخذت بردة غلامك وأعطيته معافريك أو أخذت معافريه وأعطيته بردتك فكانت عليك حلة وعليه حلة فمسح رأسي وقال اللهم بارك فيه يا ابن أخي بصر عيني هاتين وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون وكان أن أعطيه من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده وهو يصلي في ثوب واحد مشتملا [ ص: 54 ] به فتخطيت القوم حتى جلست بينه وبين القبلة فقلت يرحمك الله تصلي في ثوب واحد ورداؤك إلى جنبك فقال بيده في صدري هكذا وفرق بين أصابعه وقوسها : أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك فيراني كيف أصنع فيصنع مثله .

أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون بن طاب فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون ثم أقبل علينا فقال أيكم يحب أن يعرض الله عنه قال فخشعنا، ثم قال أيكم يحب أن يعرض الله عنه قلنا لا أينا يا رسول الله قال فإن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا ثم طوى ثوبه بعضه على بعض وقال أروني عبيرا فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة قال جابر فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم .

سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعقبه منا الخمسة والستة والسبعة فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن فقال شأ لعنك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا اللاعن بعيره قال أنا يا رسول الله قال انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسئل فيها عطاء فيستجيب لكم .

سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عشيشية ودنونا من مياه العرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يتقدمنا فيمدر الحوض فيشرب ويسقينا قال جابر فقمت فقلت هذا رجل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجل مع جابر فقام جبار بن صخر فانطلقنا إلى البئر فنزعنا في الحوض سجلا أو سجلين ثم مدرناه ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه وكان أول طالع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتأذنان قلنا نعم يا رسول الله فأشرع ناقته فشربت يعني ثم شن لها ففشجت فبالت ثم عدل بها فأناخها ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فتوضأ منه ثم قمت فتوضأت من متوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب جبار بن صخر يقضي حاجته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وكانت علي بردة ذهبت أن أخالف [ ص: 55 ] بين طرفيها فلم تبلغ بي وكانت لها ذباذب فنكستها ثم خالفت بين طرفيها ثم تواقصت عليها ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا بيده جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر ثم فطنت به فقال هكذا بيده يعني شد وسطك فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا جابر قلت لبيك يا رسول الله إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك .

سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل منا كل يوم تمرة فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا فأقسم أخطئها رجل يوما فانطلقنا به ننعشه فأشهدنا له أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها .

سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجة فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لاءم بينهما يعني جمعهما فقال التئما علي بإذن الله فالتأمتا قال جابر فخرجت أحضر مخافة أن يحس بقربي فيبتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا وأشار ابن إسماعيل برأسه يمينا وشمالا ثم أقبل فلما انتهى إلي قال يا جابر هل رأيت مقامي قلت نعم يا رسول الله قال فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك قال جابر فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري ثم لحقت فقلت قد فعلت يا رسول الله فعم ذاك قال إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما مادام الغصنان رطبين قال فأتينا العسكر فقال رسول [ ص: 56 ] الله صلى الله عليه وسلم يا جابر ناد بوضوء فقلت ألا بوضوء قال قلت يا رسول الله وجدت في الركب من قطرة وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد قال فقال لي انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر هل في أشجابيه من شيء قال فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغه شربه يابسه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغه لشربه يابسه قال اذهب فأتني به فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيديه ثم أعطانيه فقال يا جابر ناد بجفنة فقلت يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه في الجفنة هكذا فبسطها وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله فصببت عليه وقلت بسم الله فرأيت الماء يتفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت فقال يا جابر ناد من كان له حاجة بماء قال فأتى الناس فاستقوا حتى رووا قال فقلت هل بقي أحد له حاجة بماء فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه من الجفنة وهي ملأى .

وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال عسى الله أن يطعمكم فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا وشوينا وأكلنا وشبعنا قال جابر فدخلت أنا وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه .

قال الإمام رحمه الله : في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها انقلاع الشجرتين واجتماعهما ثم افتراقهما ومنها فوران الماء من بين أصابعه وأخذ الناس الكثير منه ثم لم ينقص مع كثرة ما أخذ منه وغير ذلك من الآيات ، وأما شرح الألفاظ الغريبة فيه فقوله ضمامة من صحف أي صحف مضمومة أي جماعة كتب واللغة الفصيحة إضمامة ، والمعافري ثوب يمني ، والسفعة تغير في الوجه وسواد ، وفي كتابي الخزامي بالزاي المعجمة ، والجفر الذي قوي وغلظ بعدما يفطم ، والأريكة الحجلة ، وفي كتابي بصر عيني وسمع أذني وحقه من الإعراب عيناي وأذناي ، فإما أن يكون وقع من الراوي وإما أن يكون [ ص: 57 ] لغة وإما أن يكون كتب بالياء وتلفظ به الراوي بالألف فيكون نوع اصطلاح في الكتابة ، ومناط القلب معلق القلب وفي رواية نياط قلبه ، وقوله رسول الله بالنصب يتعلق بقوله وسمع أذني ، والحلة إزار ورداء والمعافري برد يمني ، وقوله وأعطيته معافريك أي لو كان الثوبان من جنس واحد كان أحسن وكأن البردة كانت دون المعافري فأراد رضي الله عنه أن يسوي بينه وبين غلامه في اللباس ، وقول مشتملا أي ملتحفا به أي غطى به بدنه ، والعرجون جريد النخل ، وابن طاب نوع من النخل أو من ثمر النخل ، وقوله فخشعنا أي فخشينا ، والعبير نوع من الطيب وكذلك الخلوق ، وبطن بواط موضع بالباء المفتوحة المعجمة بواحدة من تحتها ، والناضح البعير يستقى عليه ، ويعقبه أي يتعاقبه في الركوب إذا نزل واحد ركب آخر ، وقوله فدارت عقبة رجل أي فجاءت نوبة ركوبه ، وتلدن عليه أي تعسر ولم ينبعث ، وقوله شأ زجر للبعير إذا أراد صاحبه أن يقيمه ، وعشيشية تصغير عشية ، ويمدر الحوض أي يصلحه بالطين والمدر ، والسجل الدلو العظيم ، وأفهقناه أي ملأناه وأشرع ناقته أي أرسلها نحو الماء ، يقال أشرعت الرمح نحوه ، والشريعة مورد الماء ، وقوله شنق لها أي كف زمامها ، وقوله فشجت أي تفاجت لتبول ، وروي فشجت بتشديد الشين ، والذباذب ما يتحرك من أهداب الثوب ، وقوله ثم تواقصت عليها أي رفع منكبيه حتى ألزقهما بأصل عنقه والوقص قصر العنق ، وقوله يرمقني أي ينظر إلي ، وقوله نختبط أي نضرب الشجر بقسينا ليسقط ورقها ، وقوله فأقسم أخطئها رجل منا لو كان أخطأها أي جاوزها ولم تصل إليه يعني إلى الرجل تلك التمرة كان أظهر ، وننعشه نرفعه ، والأفيح الواسع ، والمخشوش الذي في أنفه الخشاش وهو الزمام ، يصانع يداري ، بالمنصف يقال نصف ينصف أي بلغ النصف والمنصف الموضع ، أحضر أعدو ، لفتة فعلة من الالتفات ، فينبعد أي يبعد وروي فيبعد بضم الياء ، وحسرته أي حددته ، فانذلق بالذال المعجمة أي تحدد ، وقوله فعم ذاك أي لم فعلت ذاك ، أن يرفه عنه يقال رفهت عنه أي نفست عنه الكربة ، أشجاب جمع شجب وهو الشيء الخلق ، حمارة من جريد ثلاثة أعواد يشد أطرافها وتنصب ويخالف بين أرجلها ويعلق عليها القربة ، وعزلاء القربة فمها ، أفرغه أصبه ، يابسه أي يابس الشجب أي الذي ذهب منه البلل ويبس ، وقوله يا جفنة الركب أي يا صاحب جفنة الركب ، يتفور يتفعل من فار يفور ، سيف البحر شاطئه ، زخر البحر أي مد وكثر ماؤه ، فأورينا فأوقدنا فاطبخنا [ ص: 58 ] لغة في طبخنا ، حجاج عينها أي غار عينها ، بأعظم رحل وروي الحاء وهو القتب ، وروي بأعظم رجل بالجيم والضم ، والكفل كساء يطرح على البعير .

التالي السابق


الخدمات العلمية