الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (117) قوله تعالى : مثل ما ينفقون : "ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي : ينفقونه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كمثل ريح خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر - أعني تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي الزرع - لا بالريح . وقد أجيب عن ذلك بأحد أوجه : الأول : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه يقابل الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية ، ولا يقابل الأفراد بالأفراد ، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى : مثلهم كمثل ، وهذا اختيار الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبهين [ ص: 359 ] وترك ذكر الآخر ، وذكر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، وقد مر نظير هذا في البقرة عند قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق .

                                                                                                                                                                                                                                      واختار هذا ابن عطية ، وقال "هذه غاية البلاغة والإعجاز " . الثالث : أنه على حذف مضاف : إما من الأول تقديره : "مثل مهلك ما ينفقونه " ، وإما من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وهذا الثاني أظهر ؛ لأنه يؤدي في الأول إلى تشبيه الشيء المنفق المهلك بالريح ، وليس المعنى عليه أيضا ، ففيه عود لما فر منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الشيخ التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه ، اللهم إلا أن يريد بـ "مهلك " اسم مصدر أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف أيضا قبل "ريح " تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح . ويجوز أن تكون "ما " مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم في عدم نفعه بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فيها صر في محل جر نعتا لـ "ريح " ، ويجوز أن يكون "فيها صر " جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون "فيها " وحده هو الصفة ، و "صر " فاعل به ، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف ، وهذا أحسن ؛ لأن الأصل في الأوصاف الإفراد ، وهذا قريب منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والصر "قيل : البرد الشديد المحرق ، قال :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 360 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1392 - لا يعدلن أتاويون تضربهم نكباء صر بأصحاب المحلات



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : " الصر "بمعنى الصرصر ، وهو الشيء البارد ، قالت ليلى الأخيلية :


                                                                                                                                                                                                                                      1393 - ولم يغلب الخصم الألد ويملأ الـ     ـجفان سديفا يوم نكباء صرصر



                                                                                                                                                                                                                                      وأصله مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه : الصرة للعقدة ، وأصر على كذا : لزمه . وقال بعضهم : " الصر "صوت لهيب النار ، يكون في الريح من : صر الشيء يصر صريرا أي : صوت بهذا الحس المعروف ، ومنه : صرير الباب . قال الزجاج : " والصر : صوت النار التي في الريح "وإذا عرف هذا فإن قلنا : الصر : البرد الشديد أو هو صوت النار أو صوت الريح ، فظرفية الريح له واضحة ، وإن كان الصر صفة الريح كالصرصر فالمعنى : فيها قرة صر ، كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1394 - ... ... ... ...     وفي الرحمن للضعفاء كافي



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 361 ] ومنه قولهم : "إن ضيعني فلان ففي الله كاف " المعنى : الرحمن كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "أصابت " هذه الجملة في محل جر أيضا صفة لـ "ريح " ، ولا يجوز أن تكون صفة لـ "صر " لأنه مذكر . وبدأ أولا بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة . هذا إن أعربنا "فيها " وحده صفة ، ورفعنا به "صر " أما إذا أعربناه خبرا مقدما و "صر " مبتدأ فهما جملة أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "ظلموا " صفة لـ "قوم " ، والضمير في "ظلمهم " يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سببا في إهلاكه . وجوز الزمخشري وغيره أن يعود على المنفقين ، وإليه نحا ابن عطية ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يذكروا للرد عليهم ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه بهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولكن أنفسهم يظلمون العامة على تخفيف "لكن " وهي استدراكية ، و "أنفسهم " مفعول مقدم ، قدم للاختصاص أي : لم يقع وبال ظلمهم إلا بأنفسهم خاصة لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل أيضا . وقرأها بعضهم مشددة ، ووجهها أن يكون "أنفسهم " اسمها ، و "يظلمون " الخبر ، والعائد من الجملة الخبرية على الاسم محذوف تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسن حذفه كون الفعل فاصلة ، فلو ذكر مفعوله لفات هذا الغرض . وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة حذف للعلم به ، و "أنفسهم " مفعول مقدم ليظلمون كما تقدم ، والجملة خبر [ ص: 362 ] لها ، وقد رد هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1395 - إن من يدخل الكنيسة يوما     يلق فيها جآذرا وظباء



                                                                                                                                                                                                                                      على أن بعضهم لا يقصره على الضرورة ، مستشهدا بقوله عليه السلام : " إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " ، قال : "تقديره إنه " ، ويعزى هذا للكسائي ، وقد رده بعضهم ، وخرج الحديث على زيادة "من " والتقدير : إن أشد الناس . والبصريون لا يجيزون زيادة "من " في مثل هذا التركيب لما عرف غير مرة إلا الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية