الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 142 ] 380 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلا في حد من حدود الله عز وجل

2367 - حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا أبو بكر بن نافع المديني مولى العمريين قال : سمعت محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم يقول : قالت عمرة ابنة عبد الرحمن : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم .

قال : وقضى بذلك محمد بن أبي بكر في رجل من آل عمر رضي الله عنه شج رجلا وضربه فأرسله وقال : أنت من ذوي الهيئة
.

[ ص: 143 ]

2368 - حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو بكر بن نافع مولى العمريين ، ثم ذكر مثله غير أنه لم يذكر فيه ما كان من محمد بن أبي بكر في إرساله العمري ، وفي قوله له ما قاله له .

2369 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا أبو عامر العقدي قال : حدثنا أبو بكر بن نافع قال : سمعت محمد بن أبي بكر بن حزم يقول : قالت عمرة : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذه الآثار فوجدناها كلها ترجع إلى أبي بكر بن نافع ، فاحتمل أن يكون أبو بكر هذا هو أبو بكر بن نافع مولى عبد الله بن عمر الذي حدث عنه مالك بن أنس ، فإن كان كذلك فهو رجل مقبول الرواية ، فنظرنا في ذلك .

2370 - فوجدنا محمد بن سليمان الباغندي قد حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال : حدثنا أبو بكر بن نافع مولى زيد بن الخطاب قال : سمعت محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال : قالت عمرة : قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم .

[ ص: 144 ] قال أبو جعفر : فعقلنا بذلك أنه غير أبي بكر بن نافع الذي روى عنه مالك وأنه في الحقيقة مولى زيد بن الخطاب ، لا مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .

2371 - ثم وجدنا نصر بن مرزوق قد حدثنا قال : حدثنا يحيى بن مسلمة بن قعنب قال : حدثنا أبو بكر بن نافع المديني ، عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أقيلوا ذوي الهيئة عثراتهم .

فكان في هذا الحديث مكان محمد بن أبي بكر فيما رويناه قبله أبو الرجال ، وقد خالف يحيى هذا فيه أبو عامر وسعيد بن منصور وأسد بن موسى ، وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي ، فذكروا أنه عن محمد بن أبي بكر ، وأربعة أولى بالحفظ من واحد . ثم نظرنا هل روي فيه شيء من غير هذا الوجه . ؟

2372 - فوجدنا فهدا وابن أبي مريم حدثانا قالا : حدثنا سعيد بن [ ص: 145 ] أبي مريم قال : أخبرني العطاف بن خالد المخزومي قال : أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم .

قال أبو جعفر : فكان هذا الحديث قد جاء من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر من رواية العطاف إياه عنه ، ولم نسمع لعبد الرحمن هذا ذكرا في غير هذا الحديث ، ثم نظرنا هل روي هذا الحديث من غير هذه الوجوه . ؟

2373 - فوجدنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة قد حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا ابن أبي الرجال ، قال أبو جعفر : وهو عبد الرحمن بن أبي الرجال وهو محمود في روايته ، عن ابن أبي ذئب ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن [ ص: 146 ] عمر بن الخطاب قال : استأدى علي مولى لي جرحته يقال له : سلام البربري إلى ابن حزم فأتاني فقال : جرحته ؟ فقلت : نعم ، فقال : سمعت من خالتي عمرة تقول : قالت عائشة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . فخلى سبيله ولم يعاقبه .

[ ص: 147 ] قال أبو جعفر : فنظرنا هل خولف ابن أبي الرجال ، عن ابن أبي ذئب في إسناد هذا الحديث أم لا . ؟

2374 - فوجدنا يونس قد حدثنا قال : حدثنا معن بن عيسى القزاز ، عن ابن أبي ذئب ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن أبي بكر بن حزم ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم .

فوقفنا على أن معن بن عيسى قد خالف ابن أبي الرجال في إسناد هذا الحديث ، عن ابن أبي ذئب ، فرواه عنه مقطوعا موقوفا على عمرة ، ثم نظرنا : هل روي من غير طريق ابن أبي ذئب ، عن الشيخ الذي رواه عنه ابن أبي ذئب .

2375 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : أنبأنا محمد بن حاتم قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أنبأنا عبد الله يعني : ابن المبارك ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره .

[ ص: 148 ] فوقفنا بذلك على قطع ابن المبارك إياه وعلى موافقته فيه معن بن عيسى ، وعلى مخالفته فيه ابن أبي الرجال .

ثم نظرنا هل روي هذا الحديث من غير هذه الوجوه ؟

2376 - فوجدنا يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم جميعا قد حدثانا قالا : حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن عبد الملك بن يزيد ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا حدا من حدود الله عز وجل .

[ ص: 149 ] ثم طلبنا الوقوف على عبد الملك بن زيد هذا من هو ؟ فوجدناه عبد الملك بن زيد بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، كذلك ذكره دحيم ، عن ابن أبي فديك في غير هذا الحديث ، ثم نظرنا هل روى هذا الحديث ، عن عبد الملك هذا غير ابن أبي فديك . ؟

2377 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا عبد الملك بن زيد المدني ، عن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود .

فوقفنا على رواية ابن أبي فديك وعبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث ، عن عبد الملك بن زيد هذا ، فصار عن عدلين من أهل الحديث عنه ، وقوي هذا الحديث في قلوبنا واحتجنا إلى الوقوف على معناه .

[ ص: 150 ] فوجدنا المتقدمين من أهل العلم قد جعلوا المرادين بالتجافي عن تلك الزلات الأئمة ، وجعلوهم مأمورين بالتجافي عنها عن ذوي الهيئة ، ثم نظرنا في ذوي الهيئة .

2378 - فوجدنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي أبا علي قد حدثنا قال : حدثنا موسى بن داود قال : حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة وهو ذو الصلاح .

فعقلنا بذلك أن ذوي الهيئة في الآثار التي تقدمت روايتنا لهم هم ذوو الصلاح لا من سواهم ، ثم طلبنا ما قال أهل العلم في المرادين بذلك الأمر فوجدنا منهم من يقول : إنهم الأئمة الذين إليهم إقامة العقوبات على الذنوب ، وإنه ينبغي لهم أن يمتثلوا ذلك فيمن أتاها إلا ما كان من ذلك من حدود الله .

وممن قال ذلك منهم أبو حنيفة رحمه الله وأبو يوسف ومحمد بن الحسن .

كما حدثنا سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، ولم يحك فيه خلافا .

[ ص: 151 ] وقد روي عن الشافعي رحمه الله ما يدل على أنه كان يذهب هذا المذهب أيضا ، كما حكاه لنا الربيع عنه سماعا أو إجازة منه لنا فيما ذكره في سير الواقدي .

ومنهم من قد كان يدفع هذا الحديث ، منهم مالك بن أنس رحمه الله كما ذكر عنه أشهب بن عبد العزيز من إنكاره هذا الحديث ، ومن نفيه إياه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم تأملنا نحن معنى هذا الحديث فوجدناه محتملا أن يكون المرادون بالأمر بالتجافي عن زلات الموصوفين فيه هم الذين وجبت لهم المطالبات بالعقوبات على الآداب الواجبة بتلك الزلات عن ذوي الهيئات ؛ إذ كانت ليست لهم خلقا ولا عادة ، وإنما كانت لهم هفوة ، فكان الأحسن بهم الصفح عنها لهم ، وترك حقوقهم فيها عنهم ، كما لهم أن يعفوا عن سائر حقوقهم سواها إلا الأئمة الذين ليست تلك الحقوق لهم ، فيؤمرون بالتجافي عنها ، وقد شد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم .

2379 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .

[ ص: 152 ]

2380 - وكما حدثنا علي بن معبد قال : حدثنا هوذة بن خليفة أبو الأشهب البكراوي قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبي بكرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا .

2381 - وحدثنا علي بن معبد قال : حدثنا يونس بن محمد المؤدب قال : حدثنا حسين بن عازب ، عن شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن عمرو بن الأحوص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا ، غير أنه لم يقل فيه : وأموالكم .

[ ص: 153 ] قال : وكان ما وجب من الحقوق في الأموال المحرمة ، وفي الدماء المحرمة من العقوبات العفو عنها إلى أهلها الذين وجبت لهم لا إلى الأئمة الذين يقيمونها لهم ، فمثل ذلك الحقوق في الأعراض إنما هي التجافي عنها ، والعفو عنها هي إلى أهلها الذين يأخذها الأئمة لهم لا إلى الأئمة الذين يأخذونها لهم .

فقال قائل : فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : إلا حدا من حدود الله عز وجل أو إلا الحدود ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه أن الذي أمر بالتجافي عنه والصفح عمن كان منه مما ذكرنا من الهفوات ومن الزلات إنما هو عمن معه المروءة أو الهيئة الذين لم يخرجهم ما كان منهم من الزلات والهفوات عما كانوا عليه قبل ذلك من المروءات ومن الهيئات التي هي الصلاح ، فاستحقوا بذلك التجافي لهم ، والعفو عنهم .

فأما من أتى ما يوجب حدا إما قذفا لمحصنة ، أو ما سوى ذلك من الأشياء التي توجب الحدود فقد خرج بذلك عن المعنى الذي أمر أن يتجافى عن زلات أهله ، وصار بذلك فاسقا راكبا للكبائر التي قد تقدم وعيد الله عز وجل لراكبيها بالعقوبات عليها ، وإلزام الفسق إياهم لأجلها وإسقاط العدل من الشهادات منهم لها ، ومن صار كذلك ، ففرض الله عز وجل على الأئمة التعزير في ذلك ، وعلى ذوي الحقوق [ ص: 154 ] الواجبة لهم فيه إقامة عقوباتهم عليهم ليكون ذلك زاجرا لهم ولغيرهم عن إتيان مثل ذلك والمعاودة له ولإقامة الحجة لما يوجب تفسيق من يجب تفسيقه منهم ، حتى لا تقبل لهم شهادة بعد ذلك على أحد من عباد الله عز وجل كما حكم الله عز وجل فيهم ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية