الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (118) قوله تعالى : من دونكم : يجوز أن يكون صفة لـ "بطانة " فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم . وقدره الزمخشري : "من غير أبناء جنسكم ، وهم المسلمون " ويجوز أن يتعلق بفعل النهي . وجوز بعضهم أن تكون "من " زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وبطانة الرجل : خاصته الذين يباطنهم في الأمور ، ولا يظهر غيرهم عليها مشتقة من البطن ، والباطن : دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعار والدثار في ذلك . قال عليه السلام : " الناس دثار والأنصار شعار " والشعار [ ص: 363 ] ما يلي جسدك من الثياب . ويقال : "بطن فلان بفلان بطونا وبطانة " . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1396 - أولئك خلصاني نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب



                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لا يألونكم خبالا يقال : "ألا في الأمر يألو فيه " أي : قصر نحو : غزا يغزو ، فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في نصب "خبالا " على أوجه . أحدها : أنه مفعول ثان . والضمير هو الأول ، وإنما تعدى لاثنين للتضمين . قال الزمخشري : "يقال : ألا في الأمر يألو فيه أي : قصر ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : " لا آلوك نصحا ولا ألوك جهدا "على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، والأصل : لا يألونكم في خبال أي : في تخبيلكم وهذا غير منقاس ، بخلاف التضمين فإنه منقاس ، وإن كان فيه خلاف واه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو حينئذ تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم أي : في خبالكم : ثم جعل الضمير المضاف إليه مفعولا بعد إسقاط الخافض ، فنصب "الخبال " الذي كان مضافا تمييزا ، ومثله قوله تعالى : وفجرنا الأرض عيونا أي : "عيون الأرض " ففعل به [ ص: 364 ] ما تقدم ، ومثله في الفاعلية : واشتعل الرأس شيبا الأصل : "شيب الرأس " ، وهذا عند من يثبت كون التمييز منقولا من المفعولية . وقد منعه بعضهم ، وتأول قوله تعالى : وفجرنا الأرض عيونا على أن "عيونا " بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد أي : عيونا منها . وعلى هذا التخريج يجوز أن يكون "خبالا " بدل اشتمال من "كم " ، والضمير أيضا محذوف أي : "خبالا منكم " وهذا وجه رابع .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أنه مصدر في موضع الحال أي : متخبلين . السادس : قال ابن عطية : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه من الفساد عليكم " ، فعلى هذا الذي قدره يكون المضمر و " خبالا "منصوبين على إسقاط الخافض وهو اللام و " في " .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه . أحدها : أنها استئنافية لا محل لها من الإعراب ، وإنما جيء بها وبالجمل التي بعدها لبيان حال الطائفة الكافرة حتى ينفروا منها فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن . والثاني : أنها حال من الضمير المستكن في "من دونكم " على أن الجار صفة لـ "بطانة " . والثالث : أنها في محل نصب نعتا لـ "بطانة " أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والألو بزنة "الغزو " التقصير كما تقدم ، قال زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      1397 - سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم     فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 365 ] وقال امرؤ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1398 - وما المرء ما دامت حشاشة نفسه     بمدرك أطراف الخطوب ولا آل



                                                                                                                                                                                                                                      يقال : آلى يؤلي بزنة "أكرم " ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفا ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      1399 - ... ... ... ...     فما آلى بني ولا أساؤوا



                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : ائتلى يأتلي بزنة "اكتسب " يكتسب ، قال امرؤ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1400 - ألا رب خصم فيك ألوى رددته     نصيح على تعذاله غير مؤتل



                                                                                                                                                                                                                                      فيتحد لفظ "آلى " بمعنى قصر و "آلى " بمعنى حلف ، وإن كان الفرق بينهما ثابتا من حيث المادة ؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : "وألوت فلانا أي : أوليته تقصيرا نحو : كسبته أي : أوليته كسبا وما ألوته جهدا أي : ما أوليته تقصيرا بحسب الجهد ، فقولك : " جهدا "تمييز . وقوله : لا يألونكم خبالا منه ، أي : لا يقصرون في طلب الخبال . وقال تعالى : ولا يأتل أولو الفضل قيل : هو يفتعل من ألوت ، وقيل : هو من آليت أي : حلفت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 366 ] والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا ، يقال منه : خبله وخبله بالتخفيف والتشديد فهو خابل ومخبل ومخبول ومخبل . ويقال : خبل وخبل وخبال . وفي الحديث : " من شرب الخمر ثلاثا كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " وقال زهير بن أبي سلمى :


                                                                                                                                                                                                                                      1401 - هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا     وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا



                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طلب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ودوا ما عنتم في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أوجهها : أن تكون مستأنفة كما هو الظاهر فيما قبلها . والثاني : أنها نعت لـ " بطانة "فمحلها نصب . والثالث : أنها حال من الضمير في " يألونكم " . و " ما "مصدرية ، و " عنتم "صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة أي : عنتكم أي : مقتكم . وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في البقرة عند [قوله ] لأعنتكم . وقال الراغب هنا : " المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن يتحرى مع الممانعة المشقة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قد بدت البغضاء هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله : "بدا " من غير تاء ، لأن الفاعل مؤنث مجازي ولأنها في معنى البغض . والبغضاء [ ص: 367 ] مصدر كالسراء والضراء . يقال منه : بغض الرجل فهو بغيض كظرف فهو ظريف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : من أفواههم متعلق بـ "بدت " و "من " لابتداء الغاية . وجوز أبو البقاء أن تكون حالا أي : خارجة من أفواههم . والأفواه : جمع فم ، وأصله : فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على "أفواه " ، وتصغيره على "فويه " ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فعل بسكون العين أو فعل بفتحها ؟ . خلاف للنحويين ، وإذا عرفت ذلك فاعلم أنهم حذفوا لامه تخفيفا فبقي آخره حرف علة فأبدلوها ميما لقربها منها لأنهما من الشفة ، وفي الميم هوي في الفم يضارع المد الذي في الواو ، هذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لم يبدلوا حرف العلة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1402 - فوه كشق العصا لأيا تبينه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في الإضافة وبحرف العلة في القطع عنها ، فمن الأول قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1403 - يصبح ظمآن وفي البحر فمه



                                                                                                                                                                                                                                      وخصه الفارسي وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوزه سعة ، وجعل منه [ ص: 368 ] قوله عليه السلام : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " ، ومن الثاني قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1404 - خالط من سلمى خياشيم وفا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : "وفاها " ، وإنما جاز ذلك لأن الإضافة كالمنطوق بها ، وقالت العرب : "رجل مفوه " إذا كان يجيد القول ، وهو أفوه منه أي : أوسع فما ، وقال لبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      1405 - ... ... ... ...     وما فاهوا به أبدا مقيم



                                                                                                                                                                                                                                      وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : فـ وه ، فـ م و ، فـ م ي ، فـ م م ، بدليل أفواه وفموين وفميين وأفمام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وما تخفي يجوز أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف أي : تخفيه ، فحذف ، وأن تكون المصدرية أي : وإخفاء صدورهم ، وعلى كلا التقديرين فـ "ما " مبتدأ ، و "أكبر " خبره ، والمفضل عليه محذوف أي : أكبر من الذي أبدوه بأفواههم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 369 ] قوله : إن كنتم شرط حذف جوابه لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم عند من يرى جوازه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية