الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 189 ] سورة الواقعة

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      آ. (1) قوله: إذا وقعت : فيها أوجه أحدها: أنها ظرف محض ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها "ليس". والثاني: أن العامل فيها اذكر مقدرا. قال الزمخشري : فإن قلت: بم انتصبت "إذا"؟ قلت: بليس، كقولك: "يوم الجمعة ليس لي شغل" ثم قال: "أو بإضمار اذكر". قال الشيخ : "ولا يقول هذا نحوي، ولا من شدا شيئا من صناعة النحو". قال:لأن "ليس" مثل "ما" النافية، فلا حدث فيها، فكيف يعمل في الظرف من غير حدث؟ وتسميتها فعلا مجاز. فإن حد الفعل غير منطبق عليها، وكثر الشيخ عليه من هذا المعنى. ثم قال: "وأما المثال الذي نظر به فالظرف ليس معمولا لـ "ليس" بل للخبر، وتقدم معمول خبرها عليها، وهي مسألة خلاف". انتهى. قلت: الظروف تعمل فيها روائح الأفعال. ومعنى كلام الزمخشري: أن النفي المفهوم من "ليس" هو العامل في "إذا" كأنه قيل: ينفي كذب وقوعها إذا [ ص: 190 ] وقعت. ويدل على ما قلته، قول أبي البقاء: "والثاني ظرف لما دل عليه ليس لوقعتها كاذبة ، أي: إذا وقعت لم تكذب"، فإن قيل فليجز ذلك في "ما" النافية أيضا، فالجواب: أن الفعل أقرب إلى الدلالة على الحدث من الحرف.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنها شرطية. وجوابها مقدر، أي: اذا وقعت كان كيت وكيت، وهو العامل فيها. والرابع: أنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها، وهو اختيار الشيخ، وتبع في ذلك مكيا. قال مكي: والعامل فيها "وقعت" لأنها قد يجازى بها، فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في "ما" و"من" اللتين للشرط في قولك: ما تفعل أفعل، ومن تكرم أكرم، ثم ذكر كلاما كثيرا. الخامس: أنها مبتدأ، و"إذا رجت" خبرها، وهذا على قولنا: إنها تتصرف، وقد مضى القول فيه محررا، إلا أن هذا الوجه إنما جوزه الشيخ ، جمال الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءة من نصب "خافضة رافعة" على الحال. وحكاه بعضهم عن الأخفش، ولا أدري اختصاص ذلك بوجه النصب.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أنه ظرف لـ خافضة أو "رافعة" ، قاله أبو البقاء ، أي: [ ص: 191 ] إذا وقعت خفضت ورفعت. السابع: أن يكون ظرفا لـ "رجت" "وإذا" الثانية على هذا إما بدل من الأولى أو تكرير لها. الثامن: أن العامل فيه ما دل عليه قوله: فأصحاب الميمنة ، أي: إذا وقعت باتت أحوال الناس فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع: أن جواب الشرط قوله: فأصحاب الميمنة إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لوقعتها" خبر مقدم و"كاذبة" اسم مؤخر. و"كاذبة" يجوز أن يكون اسم فاعل وهو الظاهر، وهو صفة لمحذوف، فقدره الزمخشري : "نفس كاذبة، أي: أنه ذلك اليوم لا يكذب على الله أحد، ولا يكذب بيوم القيامة أحد"، ثم قال: واللام مثلها في قوله: قدمت لحياتي إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول: لم تكوني كما لها نفوس كثيرة يكذبنها اليوم يقلن لها: لم تكوني، أو هو من قولهم: كذبت فلانا نفسه في الخطر العظيم إذا شجعته على مباشرته، وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه فتعرض له، ولا تبال به على معنى أنها وقعة لا تطاق شدة وفظاعة، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور، وتزين له احتمالها وإطاقتها; لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى: كالفراش المبثوث والفراش مثل في الضعف. وقدره ابن عطية: "حال كاذبة"، قال: ويحتمل الكلام على هذا معنيين، أحدهما: كاذبة، أي: مكذوبة فيما أخبر به عنها فسماها كاذبة لهذا، كما تقول: هذه قصة كاذبة، أي: مكذوب فيها. والثاني: [ ص: 192 ] أي: لا يمضي وقوعها كقولك: فلان إذا حل لم يكذب. والثاني: أن كاذبة مصدر بمعنى التكذيب نحو: خائنة الأعين. قال الزمخشري : من قولك: حمل فلان على قرنه فما كذب، أي: فما جبن ولا تثبط. وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه وأنشد لزهير:


                                                                                                                                                                                                                                      4200 - ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد. انتهى. وهو كلام حسن جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لك في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها لا محل لها من الإعراب: إما لأنها ابتدائية ولا سيما على رأي الزمخشري، حيث جعل الظرف متعلقا بها وإما لأنها اعتراضية بين الشرط وجوابه المحذوف. والثاني: أن محلها النصب على الحال، قاله ابن عطية، ولم يبين صاحب الحال ماذا؟ وهو واضح إذا لم يكن هنا إلا الواقعة، وقد صرح أبو الفضل بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة برفع "خافضة رافعة" على خبر ابتداء مضمر، أي: هي خافضة قوما إلى النار ورافعة آخرين إلى الجنة، فالمفعول محذوف لفهم المعنى، أو يكون المعنى: أنها ذات خفض ورفع كقوله: " يحيي [ ص: 193 ] ويميت " ، " وكلوا واشربوا " وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصبها على الحال، ويروى عن الكسائي أنه قال: "لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به". انتهى. ولا أظن مثل هذا يصح عن مثل هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في ذي الحال، فقال أبو البقاء : من الضمير في "كاذبة" أو في "وقعت"، وإصلاحه أن يقول: أو فاعل "وقعت" إذ لا ضمير في "وقعت". وقال ابن عطية وأبو الفضل من "الواقعة"، ثم قررا مجيء الحال متعددة من ذي حال واحدة كما تجيء الأخبار متعددة. وقد بينت لك هذا فيما تقدم فاستغنيت عن كلامهما. قال أبو الفضل: وإذا جعلت هذه كلها أحوالا كان العامل في "إذا وقعت" محذوفا يدل عليه الفحوى، أي: إذا وقعت يحاسبون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية