الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (119) قوله تعالى : ها أنتم أولاء تحبونهم : قد تقدم نظيره وتحقيقه مرتين ، ونزيد هنا أن يكون "أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسألة من الاشتغال نحو : "أنا زيدا ضربته " وقوله : ولا يحبونكم يحتمل أن يكون استئناف إخبار وأن يكون جملة حالية . و "الكتاب " يجوز أن تكون الألف واللام للجنس ، والمعنى بالكتب كلها ، فاكتفى الواحد ، ويجوز أن تكون للعهد ، والمراد به كتاب مخصوص .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : "عليكم " . متعلق بـ "عضوا " ، وكذلك : "من الغيظ " . و "من " فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون بمعنى اللام فتفيد العلة أي : من أجل الغيظ . وجوز أبو البقاء في "عليكم " وفي "من الغيظ " أن يكونا حالين ، فقال : "ويجوز أن يكون حالا أي : حنقين عليكم ، " من الغيظ "متعلق بـ " عضوا "أيضا ، و " من "لابتداء الغاية أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالا أي : " مغتاظين "انتهى . وقوله : " ومن لابتداء الغاية أي : من أجل الغيظ "كلام متنافر ، لأن التي للابتداء لا تفسر بمعنى " من أجل "فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة فالحالية فيها لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديرا صناعيا ، لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة .

                                                                                                                                                                                                                                      والعض : الأزم بالأسنان وهو تحامل الأسنان بعضها على بعض . يقال : عضضت بكسر العين في الماضي أعض بالفتح - عضا وعضيضا . قال [ ص: 370 ] امرؤ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1406 - ... ... ... ... كفحل الهجان ينتحي للعضيض



                                                                                                                                                                                                                                      ويعبر به عن الندم المفرط ، ومنه : ويوم يعض الظالم على يديه وإن لم يكن ثم عض حقيقة . قال أبو طالب :


                                                                                                                                                                                                                                      1407 - وقد صالحوا قوما علينا أشحة     يعضون غيظا خلفنا بالأنامل



                                                                                                                                                                                                                                      جعل الباء زائدة في المفعول ، إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل ، وله نظائر مرت . وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1408 - قد أفنى أنامله أزمه     فأمسى يعض علي الوظيفا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحارث بن ظالم المري :


                                                                                                                                                                                                                                      1409 - وأقتل أقواما لئاما أذلة     يعضون من غيظ رؤوس الأباهم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 371 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1410 - إذا رأوني أطال الله غيظهم     عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم



                                                                                                                                                                                                                                      والعض كله بالضاد إلا في قولهم : " عظ الزمان "أي اشتد ، وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء أخت الطاء ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1411 - وعظ زمان يا بن مروان لم يدع     من المال إلا مسحتا أو مجلف



                                                                                                                                                                                                                                      وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : " وعض زمان "بالضاد .

                                                                                                                                                                                                                                      والعض : - بضم الفاء - علف من نوى مرضوض وغيره ، ومنه : بعير عضاضي أي : سمين كأنه منسوب إليه ، وأعض القوم : إذا أكلت إبلهم ذلك والعض - بكسر الفاء - الداهية من الرجال كأنهم تصوروا عضه وشدته . وزمن عضوض أي : جدب ، والتعضوض : نوع من التمر سمي بذلك لشدة مضغه وصعوبته .

                                                                                                                                                                                                                                      والأنامل : جمع أنملة وهي رؤوس الأصابع ، قال الرماني : "واشتقاقها من النمل هذا الحيوان المعروف ، شبهت به لدقتها وسرعة تصرفها وحركتها ومنه قالوا للنمام : نمل ومنمل لذلك قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1412 - ولست بذي نيرب فيهم     ولا منمش منهم منمل



                                                                                                                                                                                                                                      وفي ميمها الضم والفتح .

                                                                                                                                                                                                                                      والغيظ : مصدر غاظه يغيظه أي : أغضبه ، وفسره الراغب بأنه أشد [ ص: 372 ] الغضب قال : " وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه "قال : وإذا وصف به الله تعالى فإنما يراد الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت . قال تعالى : سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة من قوله : " وتؤمنون "معطوفة على : " تحبونهم "ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة . وقال الزمخشري : " والواو في " وتؤمنون " للحال وانتصابها من "لا يحبونكم " أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم "قال الشيخ : " وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في "وتؤمنون " للحال وانتصابها من "لا يحبونكم " ، والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال تقول : "جاء زيد يضحك " ولا يجوز : "ويضحك " . فأما قولهم : "قمت وأصك عينه " ففي غاية الشذوذ ، وقد أول على إضمار مبتدأ أي : "وأنا أصك عينه " فتصير الجملة اسمية ويحتمل هذا التأويل هنا أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف "يعني فإنه لا يحوج إلى حذف بخلاف تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل . وثم جملة محذوفة يدل عليها السياق ، والتقدير : وتؤمنون بالكتاب كله ولا يؤمنون هم به كله ، بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بغيظكم يجوز أن تكون الباء للحال أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفشوه ، لأنه كلما ازداد الإيمان زاد غيظهم . ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غيظكم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 373 ] وقوله : موتوا صورته أمر ومعناه الدعاء ، وقيل : معناه الخبر أي : إن الأمر كذلك ، وقد قال بعضهم : " إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعا على هذه الصفة فإن دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية ، ولا يجوز أن يكون بمعنى الخبر لأنه لو كان خبرا لوقع على حكم ما أخبر ولم يؤمن أحد بعد ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يبق إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد ، ومثله : اعملوا ما شئتم " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " وهذا الذي قاله ليس بشيء ؛ لأن من آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إن قصد به الدعاء ، ولا تحت الخبر إن قصد به الإخبار .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية