الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          " الإمام أحمد بن حنبل " .

                                                                                                                          هو الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان - بالمثناة - بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب [ ص: 422 ] - بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها باء موحدة - بن أفصى - بالفاء والصاد المهملة - بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، الشيباني المروزي البغدادي ، هكذا ذكره الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي ، وأبو بكر البيهقي ، وابن عساكر ، وابن طاهر . وقال عباس الدوري ، وابن ماكولا : ذهل بن شيبان ، وأنكر ذلك الخطيب ، وقال : هو غلط من الدوري . قال الجوهري : وشيبان حي من بكر ، وهما شيبانان . أحدهما : شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، والآخر شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ، وهو موافق لما قال الخطيب . وذكره المصنف في أول " المغني " فقال : أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن ذهل بن شيبان . فأسقط أنس بن عوف بن قاسط بن مازن ، أربعة وقدم ذهلا على شيبان ، والله أعلم .

                                                                                                                          حملت به أمه بمرو ، وولدت ببغداد ، ونشأ بها ، وأقام بها إلى أن توفي بها ، ودخل مكة ، والمدينة ، والشام ، واليمن ، والكوفة ، والبصرة ، والجزيرة . قال الحافظ ابن عساكر : كان شيخنا شديد السمرة طوالا مخضوبا بالحناء ، وقيل : كان ربعة . سمع سفيان بن عيينة ، وإبراهيم بن سعد ، ويحيى القطان ، وهشيما ، ووكيعا ، وابن علية ، وابن مهدي ، وعبد الرزاق ، وخلائق كثيرين ذكرهم الحافظ أبو الفرج بن الجوزي وغيره على حروف المعجم . وروى عنه عبد الرزاق ، ويحيى بن آدم ، وأبو الوليد ، وابن مهدي ، ويزيد بن هارون ، وعلي بن المديني ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأبو زرعة الرازي ، والدمشقي ، وإبراهيم الحربي ، وأبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم ، وعبد الله بن محمد البغوي ، وأبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، ومحمد بن إسحاق الصاغاني ، وأبو حاتم الرازي ، وأحمد بن أبي الحواري ، وموسى بن هارون ، وحنبل بن إسحاق ، [ ص: 423 ] وعثمان بن سعيد الدارمي ، وحجاج بن الشاعر ، وخلائق كثيرون ذكرهم الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في " المناقب " على حروف المعجم .

                                                                                                                          وروينا عن الشافعي الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس أنه قال : خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا ، أورع ، ولا أتقى ، ولا أفقه - وأظنه قال : ولا أعلم - من أحمد بن حنبل .

                                                                                                                          وعن الربيع بن سليمان ، قال : قال لنا الشافعي : أحمد إمام في ثمان خصال : إمام في الحديث ، إمام في الفقه ، إمام في اللغة ، إمام في القرآن ، إمام في الفقر ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في السنة .

                                                                                                                          وروينا عن الشافعي أنه قال عند قدومه إلى مصر من العراق : ما خلفت بالعراق أحدا يشبه أحمد بن حنبل . وروينا عن إبراهيم الحربي قال : يقول الناس : أحمد بن حنبل بالتوهم ، والله ما أجد لأحد من التابعين عليه مزية ، ولا أعرف أحدا يقدر قدره ، ولا يعرف من الإسلام محله ، ولقد صحبته عشرين سنة صيفا وشتاء ، وحرا وبردا ، وليلا ونهارا ، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس ، ولقد كان يقدم أئمة العلماء من كل بلد ، وإمام كل مصر ، فهم بجلالتهم ما دام الرجل منهم خارجا من المسجد ، فإذا دخل المسجد صار غلاما متعلما .

                                                                                                                          وروينا عنه أيضا أنه قال : لقد رأيت رجالات الدنيا ، لم أر مثل ثلاثة . أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله . ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءا عقلا ، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نفخ فيه علم .

                                                                                                                          وروينا عن عبد الوهاب الوراق قال : ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ، قالوا له : وأي شيء بان لك من فضله وعلمه على سائر من رأيت ؛ قال : رجل سئل عن ستين ألف مسألة ، فأجاب لها بأن قال : حدثنا ، وأخبرنا . وروينا عن علي بن المديني أنه قال : إن سيدي أحمد بن حنبل أمرني أن لا أحدث إلا من كتاب . وروينا عنه أنه قال : إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق [ ص: 424 ] يوم الردة ، وأحمد بن حنبل يوم المحنة . وروينا عنه أنه قال : ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قام أحمد بن حنبل . قلت : يا أبا الحسن ، ولا أبو بكر ؛ قال : ولا أبو بكر الصديق ، لأن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب ، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب . وروينا بالإسناد عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، أنه قال : أحمد بن حنبل إمامنا ، إني لأتزين بذكره . وعن أبي بكر الأثرم ، قال : كنا عند أبي عبيد وأنا أناظر رجلا عنده ، فقال الرجل : من قال بهذه المسألة ؛ فقلت : من ليس من شرق ولا غرب مثله . قال : من ؛ قلت : أحمد بن حنبل . قال أبو عبيد : صدق ، من ليس في شرق ولا غرب مثله ، ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه . وعن إسحاق بن راهويه أنه قال : أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه . وقال أيضا : لولا أحمد بن حنبل وبذله نفسه لما بذلها له ، لذهب الإسلام . وعن بشر بن الحارث أنه قيل له حين ضرب أحمد بن حنبل : يا أبا نصر لو أنك خرجت فقلت : إني على قول أحمد بن حنبل . فقال بشر : أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؛ إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء . وقال أيضا : أدخل أحمد بن حنبل الكير ، فخرج ذهبة حمراء . وروينا بالإسناد إلى بشر ، قال : سمعت المعافى بن عمران يقول : سئل سفيان الثوري عن الفتوة ، فقال :

                                                                                                                          الفتوة : العقل والحياء ، ورأسها الحفظ ، وزينتها الحلم والأدب ، وشرفها العلم والورع ، وحليتها المحافظة على الصلوات ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، وبذل المعروف ، وحفظ الجار ، وترك التكبر ، ولزوم الجماعة ، والوقار ، وغض الطرف عن المحارم ، ولين الكلام ، وبذل السلام ، وبر الفتيان العقلاء الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه ، وصدق الحديث ، واجتناب التكلف ، وإظهار المودة ، وإطلاق الوجه ، وإكرام الجليس ، والإنصات للحديث ، وكتمان السر ، وستر العيوب ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، والوفاء بالعهد ، والصمت في المجالس من غير عي ، والتواضع من [ ص: 425 ] غير حاجة ، وإجلال الكبير ، والرفق بالصغير ، والرأفة والرحمة للمسلمين ، والصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء .

                                                                                                                          وكمال الفتوة : الخشية لله عز وجل ، فينبغي للفتى أن تكون فيه هذه الخصال كلها ، فإذا كان كذلك كان فتى بحقه .

                                                                                                                          قال بشر : وكذلك كان أحمد بن حنبل فتى ، لأنه قد جمع هذه الخصال كلها . وعن أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي ، قال : ما رأت عيناي مثل أحمد بن حنبل في العلم ، والزهد ، والفقه ، والمعرفة ، وكل خير ، ما رأت عيناي مثله . وقال أيضا : ما رأيت أحدا أجمع منه ، ما رأيت أحدا أكمل منه .

                                                                                                                          وعن المزني صاحب الشافعي قال : أحمد بن حنبل يوم المحنة ، وأبو بكر الصديق يوم الردة ، وعمر يوم السقيفة ، وعثمان يوم الدار ، وعلي يوم صفين . وعن أبي داود السجستاني ، قال : رأيت مائتي شيخ من مشايخ العلم ، فما رأيت مثل أحمد بن حنبل ، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس ، فإذا ذكر العلم تكلم . وعن إبراهيم الحربي ، قال : سعيد بن المسيب في زمانه ، وسفيان الثوري في زمانه ، وأحمد بن حنبل في زمانه . وعن عبد الوهاب الوراق قال : لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " فردوه إلى عالمه " رددناه إلى أحمد بن حنبل ، وكان أعلم أهل زمانه ، وقد صنف في مناقبه من المتقدمين والمتأخرين ، جماعة ، كابن منده ، والبيهقي ، وشيخ الإسلام الأنصاري ، وابن الجوزي ، وابن ناصر ، وغيرهم ، وشهرة إمامته ، ومناقبه ، وسيادته ، وبراعته ، وزهادته ، ومجموع محاسنه ، كالشمس ، إلا أنها لا تغرب ، رضي الله عنه وحشرنا في زمرته .

                                                                                                                          ولد رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 164 هـ أربع وستين ومائة ، وتوفي ببغداد يوم الجمعة لنحو من ساعتين من النهار ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة 241 إحدى وأربعين ومائتين ، والمشهور من ربيع الآخر ، رضي الله عنه .

                                                                                                                          صنف " المسند " ثلاثون ألف حديث ، و " التفسير " مائة ألف وعشرون [ ص: 426 ] ألفا ، و " الناسخ والمنسوخ " و " التاريخ " و " حديث شعبة " و " المقدم والمؤخر " في القرآن ، و " جوابات القرآن " و " المناسك " الكبير ، والصغير ، وأشياء أخر ، وليس هذا مكان استقصاء مناقبه ، والله أعلم .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          الخدمات العلمية