الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 150 ] تفسير سورة التكاثر

وهي مكية
في قول جميع المفسرين .

وروى البخاري أنها مدنية . وهي ثماني آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ألهاكم التكاثر ألهاكم شغلكم . قال [ امرؤ القيس ] :


فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتى متم ودفنتم في المقابر . وقيل ألهاكم : أنساكم . التكاثر أي من الأموال والأولاد ، قاله ابن عباس والحسن . وقال قتادة : أي التفاخر بالقبائل والعشائر . وقال الضحاك : أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة . يقال : لهيت عن كذا ( بالكسر ) ألهى لهيا ولهيانا : إذا سلوت عنه ، وتركت ذكره ، وأضربت عنه . وألهاه : أي شغله . ولهاه به تلهية أي علله . والتكاثر : المكاثرة .

قال مقاتل وقتادة وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا . وقال ابن زيد : نزلت في فخذ من الأنصار . وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني : سهم ، تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر عائذا ، فكثر بنو عبد مناف سهما . ثم تكاثروا بالأموات ، فكثرتهم سهم ، [ ص: 151 ] فنزلت ألهاكم التكاثر بأحيائكم فلم ترضوا حتى زرتم المقابر مفتخرين بالأموات . وروى سعيد عن قتادة قال : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني فلان ; وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم . وعن عمرو بن دينار حلف أن هذه السورة نزلت في التجار . وعن شيبان عن قتادة قال : نزلت في أهل الكتاب .

قلت : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره . وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت .

وروى البخاري عن ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " . قال ثابت عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن ، حتى نزلت ألهاكم التكاثر . قال ابن العربي : وهذا نص صحيح مليح ، . غاب عن أهل التفسير فجهلوا والحمد لله على المعرفة . وقال ابن عباس : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ألهاكم التكاثر قال : " تكاثر الأموال : جمعها من غير حقها ، ومنعها من حقها ، وشدها في الأوعية " .

الثانية : قوله تعالى : حتى زرتم المقابر

أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوارا ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار . يقال لمن مات : قد زار قبره . وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات ، على ما تقدم . وقيل : هذا وعيد . أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله - عز وجل - .

الثالثة : قوله تعالى : المقابر جمع مقبرة ومقبرة ( بفتح الباء وضمها ) . والقبور : جمع القبر قال :

[ ص: 152 ]

أرى أهل القصور إذا أميتوا     بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا     على الفقراء حتى في القبور

وقد جاء في الشعر ( المقبر ) قال :


لكل أناس مقبر بفنائهم     فهم ينقصون والقبور تزيد

وهو المقبري والمقبري : لأبي سعيد المقبري ; وكان يسكن المقابر . وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا ، أي دفنته . وأقبرته أي أمرت بأن يقبر . وقد مضى في سورة ( عبس ) القول فيه . والحمد لله .

الرابعة : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة . وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ; لأنها تذكر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة رواه ابن مسعود ; أخرجه ابن ماجه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : فإنها تذكر الموت . وفي الترمذي عن بريدة : فإنها تذكر الآخرة . قال : هذا حديث حسن صحيح .

وفيه عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور . قال : وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت . قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح . وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور ; فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن .

قلت : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك . وجائز لجميعهن . ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ; ولا يختلف في هذا إن شاء الله . وعلى هذا المعنى يكون قوله : " زوروا القبور " عاما . وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا [ ص: 153 ] يحل ولا يجوز . فبينا الرجل يخرج ليعتبر ، فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور . والله أعلم .

الخامسة : قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وموتم البنين والبنات ، ويواظب على مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين . فهذه ثلاثة أمور ، ينبغي لمن قسا قلبه ، ولزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه ; فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت ، وانجلت به قساوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه ، واستحكمت فيه دواعي الذنب ; فإن مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين ، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول ; لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير ، وقائم له مقام التخويف والتحذير . وفي مشاهدة من احتضر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة ; فلذلك كان أبلغ من الأول ; قال - صلى الله عليه وسلم - : ليس الخبر كالمعاينة رواه ابن عباس .

فأما الاعتبار بحال المحتضرين ، فغير ممكن في كل الأوقات ، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات . وأما زيارة القبور فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجدر . فينبغي لمن عزم على الزيارة ، أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط ; فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة . ونعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب المشي على المقابر ، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من تلقاء وجهه ; لأنه في زيارته كمخاطبته حيا ، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه ; فكذلك هاهنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، بعد أن قاد الجيوش والعساكر ، ونافس الأصحاب والعشائر ، وجمع الأموال والذخائر ; فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه ، وهول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال ، وجمعوا الأموال ; كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وافترقت في القبور أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم . وليتذكر ترددهم في المآرب ، وحرصهم على [ ص: 154 ] نيل المطالب ، وانخداعهم لمواتاة الأسباب ، وركونهم إلى الصحة والشباب . وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم ، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع ، والهلاك السريع ، كغفلتهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه ، وكيف تهدمت رجلاه . وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه ، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه ، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه ، وليتحقق أن حاله كحاله ، ومآله كمآله . وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، ويقبل على الأعمال الأخروية ، فيزهد في دنياه ، ويقبل على طاعة مولاه ، ويلين قلبه ، وتخشع جوارحه .

التالي السابق


الخدمات العلمية