الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم

                                                                                                                                                                                                                                      لن تنالوا البر من ناله نيلا إذا أصابه، و الخطاب للمؤمنين و هو كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين و يقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم، أي: لن تبلغوا حقيقة البر الذي يتنافس فيه المتنافسون و لن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الأبرار أو لن تنالوا بر الله تعالى و هو ثوابه و رحمته و رضاه و جنته. حتى تنفقوا أي: في سبيل الله عز وجل رغبة فيما عنده و "من" في قوله تعالى: مما تحبون تبعيضية، و يؤيده قراءة من قرأ "بعض ما تحبون". وقيل: بيانية و "ما" موصولة أو موصوفة، أي: مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم و أحبها إليكم كما في قوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم أو مما يعمها وغيرها من الأعمال و المهجة، على أن المراد بالإنفاق: مطلق البذل، وفيه من الإيذان بعزة منال البر ما لا يخفى، و كان السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله عز وجل. و روي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال، يا رسول الله إن أحب أموالي إلى بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال عليه السلام: "بخ بخ ذاك مال رايح أو رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها في أقاربه. وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال هذه في سبيل الله فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فكأن زيدا وجد في نفسه و قال: إنما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله تعالى قد قبلها منك". قيل: وفيه دلالة على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى فلما جاءت إليه أعجبته [ ص: 58 ] فقال إن الله تعالى يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها. وروي أن عمر بن عبد العزيز كانت لزوجته جارية بارعة الجمال وكان عمر راغبا فيها و كان قد طلبها منها مرارا فلم تعطها إياه، ثم لما ولي الخلافة زينتها وأرسلتها إليه فقالت: قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك، قال: من أين ملكتها؟ قالت: جئت بها من بيت أبي عبد الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها، فقيل: إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أخذت من تركته، ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعا بإعطاء المال ثم توجه إلى الجارية وكان يهواها هوى شديدا، فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى، فقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ وقد أزحت عن أمرها كل شبهة، قال: لست إذن ممن نهى النفس عن الهوى. وما تنفقوا من شيء "ما" شرطية جازمة لـ "تنفقوا" منتصبة به على المفعولية، و "من" تبعيضية متعلقة بمحذوف هو صفة لاسم الشرط، أي: أي شيء تنفقوا كائنا من الأشياء، فإن المفرد في مثل هذا الموضع واقع موقع الجمع. وقيل: محل الجار و المجرور النصب على التمييز، أي: أي شيء تنفقوا طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه. فإن الله به عليم تعليل لجواب الشرط واقع موقعه، أي: فمجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عليم بكل شيء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء من ذاته و صفاته، و تقديم الجار و المجرور لرعاية الفواصل، و فيه من الترغيب في إنفاق الجيد و التحذير عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية