الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين

                                                                                                                                                                                                                                      فلما بلغ معه السعي فصيحة معربة عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال، وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح [ ص: 200 ] به لاستحالة التخلف والتأخر بعد البشارة، كما مر في قوله تعالى: فلما رأينه أكبرنه وفي قوله تعالى: فلما رآه مستقرا عنده أي: فوهبناه له فنشأ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و"معه" متعلق بمحذوف ينبئ عنه السعي لا بنفسه; لأن صلة المصدر لا تتقدمه، ولا بـ(بلغ) لأن بلوغهما لم يكن معا، كأنه لما ذكر السعي قيل: مع من؟ فقيل: معه، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح، فلا يستسيغه قبل أوانه، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أي: إبراهيم عليه السلام يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك أي: أرى هذه الصورة بعينها، أو ما هذه عبارته وتأويله، وقيل: إنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثمة سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى، فمن ثمة سمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره، فسمي اليوم يوم النحر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: إذن هو ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي معه، قيل له: أوف بنذرك، والأظهر الأشهر أن المخاطب إسماعيل - عليه السلام - إذ هو الذي وهب إثر المهاجرة؛ ولأن البشارة بإسحاق بعده معطوف على البشارة بهذا الغلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جده إسماعيل - عليه السلام - والآخر أبوه عبد الله، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله تعالى له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة، فلما حصل ذلك، وخرج السهم على عبد الله فداه بمائة من الإبل، ولذلك سنت الدية مائة، ولأن ذلك كان بمكة ، وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة، ولأن بشارة إسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبه الأمر بذبحه مراهقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل: «أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» الزوائد من الراوي، وما روي من أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت، وقرئ: (إني) بفتح الياء فيهما.

                                                                                                                                                                                                                                      فانظر ماذا ترى من الرأي، وإنما شاوره فيه - وهو أمر محتوم - ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله تعالى، فيثبت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم، وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة عليه بالانقياد له قبل نزوله، وقرئ: (ماذا تري) بضم التاء وكسر الراء، وبفتحها مبنيا للمفعول قال يا أبت افعل ما تؤمر أي: تؤمر به، فحذف الجار أولا على القاعدة المطردة، ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوبا بإيصاله إلى الفعل، أو حذفا دفعة، أو افعل أمرك، على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: (ما تؤمر به) وصيغة المضارع للدلالة على أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به ستجدني إن شاء الله من الصابرين على الذبح، أو على قضاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية