الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان .

اطرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يشبه الضدين بعد مقابلة ذكر الشمس والقمر بذكر النجم والشجر ، فجيء بذكر خلق السماء وخلق الأرض .

وعاد الكلام إلى طريقة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله الرحمن علم القرآن ، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه .

ورفع السماء يقتضي خلقها . وذكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب . ومعنى رفعها : خلقها مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط : وسع جيب القميص ، أي خطه واسعا على أن في مجرد الرفع إيذانا بسمو المنزلة وشرفها لأن فيها منشأ أحكام الله ومصدر قضائه ، ولأنها مكان الملائكة ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .

وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادة في الاهتمام بالاعتبار بخلقها .

والميزان : أصله اسم آلة الوزن ، والوزن تقدير تعادل الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مفعال من الوزن ، وقد تقدم في قوله تعالى والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه في سورة الأعراف ، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس .

[ ص: 238 ] والميزان هنا مراد به العدل ، مثل الذي في قوله تعالى وأنزلنا معهم الكتاب والميزان لأنه الذي وضعه الله ، أي عينه لإقامة نظام الخلق ، فالوضع هنا مستعار بالجعل فهو كالإنزال في قوله وأنزلنا معهم الكتاب والميزان . ومنه قول أبي طلحة الأنصاري وإن أحب أموالي إلي بئر حاء وأنها صدقة لله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله أي اجعلها وعينها لما يدلك الله عليه .

فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية ، وإيهام طباق مع قوله ( رفعها ) ففيه محسنان بديعيان .

وقرن ذلك مع رفع السماء تنويها بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل ، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به ، ولذلك تكرر ذكر العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق في سورة يونس ، وقوله وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق في سورة الحجر ، وقوله وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق في سورة الدخان . وهذا يصدق القول المأثور : بالعدل قامت السماوات والأرض . وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان .

و أن في قوله أن لا تطغوا يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل . وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيره بحرف أن التفسيرية . فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيرا لذلك . فتكون لا ناهية .

ويجوز أن تكون أن مصدرية بتقدير لام الجر محذوفة قبلها . والتقدير : لئلا تطغوا في الميزان ، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء ، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة . وتكون لا نافية ، وفعل تطغوا منصوبا ب أن المصدرية .

[ ص: 239 ] ولفظ الميزان يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه . وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل ( وضع ) وفعلي ( لا تطغوا ) و ( أقيموا ) وحرف الباء في قوله بالقسط وحرف في من قوله في الميزان ولفظ القسط ، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن .

والطغيان : دحض الحق عمدا واحتقارا لأصحابه ، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم . ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه .

و ( في ) من قوله في الميزان ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان ، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية قوله تعالى وارزقوهم فيها واكسوهم ، أي ارزقوهم من بعضها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي :

سبرة بن عمرو الفقعسي ونشرب في أثمانها ونقامر

إذ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون ، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت :

نحابي بها أكفاءنا ونهينها

وقوله تعالى وأقيموا الوزن بالقسط عطف على جملة ألا تطغوا في الميزان على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية .

وعلى جملة ووضع الميزان على احتمال قول المعطوف عليها تعليلا .

والإقامة : جعل الشيء قائما ، وهو تمثيل للإتيان به على أكمل ما يريد له وقد تقدم عند قوله ويقيمون الصلاة في سورة البقرة .

والوزن حقيقته : تحقيق تعادل الأجسام في الثقل ، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس .

[ ص: 240 ] والقسط : العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة : قسطاس ، ومرة : قسط ، وتقدم في قوله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة في سورة الأنبياء .

والباء للمصاحبة .

والمعنى : اجعلوا العدل ملازما لما تقومونه من أموركم كما قال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وكما قال ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، فيكون قوله بالقسط ظرفا مستقرا في موضع الحال أو الباء للسببية ، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل ، فيكون قوله بالقسط ظرفا لغوا متعلقا ، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت الآية للتنبيه عليه ، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله ولا تخسروا الميزان فإن حمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه ، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيها على شدة عناية الله بالعدل ، وإن حمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .

والإخسار : جعل الغير خاسرا والخسارة النقص .

فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإخسار جعل صاحب الحق خاسرا مغبونا; ويكون الميزان منصوبا على نزع الخافض ، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإخسار بمعنى النقص ، أي لا تجعلوا الميزان ناقصا كما قال تعالى ولا تنقصوا المكيال والميزان ، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل .

التالي السابق


الخدمات العلمية