الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ( 46 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ( ولا تجادلوا ) أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى ، وهم ( أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) يقول : إلا بالجميل من القول ، وهو الدعاء إلى الله بآياته ، والتنبيه على حججه .

وقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : إلا الذين أبوا أن يقروا لكم بإعطاء الجزية ، ونصبوا دون ذلك لكم حربا ، فإنهم ظلمة ، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن سهل قال : ثنا يزيد ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) قال : من قاتل ولم يعط الجزية .

حدثنا ابن وكيع قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، بنحوه . إلا أنه قال : من قاتلك ولم يعطك الجزية .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) قال : إن قالوا شرا ؛ فقولوا خيرا ، ( إلا الذين ظلموا منهم ) فانتصروا منهم . [ ص: 47 ]

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) قال : قالوا : مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ، أو آذوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، قال : هم أهل الكتاب .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) قال : أهل الحرب ، من لا عهد له جادله بالسيف .

وقال آخرون : معنى ذلك : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) الذين قد آمنوا به ، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم ( إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) فأقاموا على كفرهم ، وقالوا : هذه الآية محكمة ، وليست بمنسوخة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) قال : ليست بمنسوخة ، لا ينبغي أن تجادل من آمن منهم ، لعلهم يحسنون شيئا في كتاب الله ، لا تعلمه أنت فلا تجادله ، ولا ينبغي أن تجادل إلا الذين ظلموا ، المقيم منهم على دينه . فقال : هو الذي يجادل ، ويقال له بالسيف قال : وهؤلاء يهود . قال : ولم يكن بدار الهجرة من النصارى أحد ، إنما كانوا يهودا هم الذي كلموا وحالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغدرت النضير يوم أحد ، وغدرت قريظة يوم الأحزاب .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتال ، وقالوا : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( [ ص: 48 ] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) ثم نسخ بعد ذلك ، فأمر بقتالهم في سورة " براءة " ، ولا مجادلة أشد من السيف ، أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو يقروا بالخراج .

وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : عنى بقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) : إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية ، ونصبوا دونها الحرب .

فإن قال قائل : أو غير ظالم من أهل الكتاب إلا من لم يؤد الجزية قيل : إن جميعهم ، وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ظلمة ، فإنه لم يعن بقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) . ظلم أنفسهم . وإنما عنى به : إلا الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أولئك جادلوهم بالقتال .

وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لأن الله - تعالى ذكره - أذن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب ، بغير الذي هو أحسن بقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم ، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلا بالتي هي أحسن ، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم ، وأنهم غير المؤمن ؛ لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلا في غير الحق ، لأنه إذا جاء بغير الحق ، فقد صار في معنى الظلمة في الذي خالف فيه الحق ، فإذ كان ذلك كذلك ، تبين ألا معنى لقول من قال : عنى بقوله : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) أهل الإيمان منهم ، وكذلك لا معنى لقول من قال : نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال ، وزعم أنها منسوخة ؛ لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر ، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل .

وقد بينا في غير موضع من كتابنا ، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها ، من خبر أو عقل .

وقوله : ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين به وبرسوله ، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن : إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم ، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين ، وأن يكونوا فيه كاذبين ، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك ، فقولوا لهم ( آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) مما في التوراة والإنجيل ، ( وإلهنا وإلهكم واحد ) [ ص: 49 ] يقول : ومعبودنا ومعبودكم واحد ( ونحن له مسلمون ) يقول : ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ذكر الرواية بذلك :

حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا عثمان بن عمر قال : أخبرنا علي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) " .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عطاء بن يسار قال : كان ناس من اليهود يحدثون ناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) " .

قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا سفيان ، عن سليمان ، عن عمارة بن عمير ، عن حريث بن ظهير ، عن عبد الله قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) . قال : قالوا : مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ، أو آذوا محمدا ، ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) لمن لم يقل هذا من أهل الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية