الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين

                                                                                                          حدثني مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          8 - باب ما جاء في إضاعة المال ، وذي الوجهين

                                                                                                          1863 1816 - ( مالك عن سهيل ) - بضم السين - ( بن أبي صالح ) ذكوان ( عن أبيه ) ، قال ابن عبد البر : كذا أرسله يحيى ، وابن وهب ، والقعنبي ، وابن القاسم ، ومعن ، ومحمد بن المبارك الصوري ، فلم يقولوا عن أبي هريرة ، وأسنده يحيى بن بكير ، وأبو مصعب ، وعبد الله بن يوسف ، ومصعب الزبيري ، وسعيد بن عفير ، وأكثر الرواة عن مالك عن سهيل عن أبيه ( عن أبي هريرة ) ، وهو محفوظ وغيره مسندا ، هكذا ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يرضى لكم ثلاثا ) من الخصال ، ( ويسخط لكم ثلاثا ) ، يعني يأمركم بثلاث ، وينهاكم عن ثلاث إذ [ ص: 652 ] الرضا عن الشيء يستلزم الأمر به ، والأمر به يستلزم الرضا ، فهو كناية ، وكذا الكلام في السخط ، وأتى باللام في الموضعين ، ولم يقل : يرضى عنكم بثلاث ، ويسخط منكم رمزا إلى أن فائدة كل من الأمرين عائدة إلى عباده ( يرضى ) ، فصله جوابا لسؤال مقدر ، اقتضاه الكلام ، كأنه قيل ما الثلاث ؟ وفي رواية لمسلم : فيرضى بفاء التفسير ( لكم أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا ) ; لأن من أشرك بعبادته أحدا ، لم يعبده ، فهذه واحدة ، وقول النووي " ثنتان " متعقب .

                                                                                                          ( و ) الثانية : ( أن تعتصموا ) : تتمسكوا ( بحبل الله جميعا ) ، زاد في رواية : " ولا تفرقوا " ، أي لا تختلفوا في ذلك الاعتصام ، كما اختلف أهل الكتاب ، فهو نفي عطف على " تعتصموا " ، أو هو نهي على أن الخبر قبله بمعنى الأمر ، أي اعتصموا ، ولا تفرقوا .

                                                                                                          واختلف في المراد بحبل الله ، فقال ابن مسعود ، وقتادة وغيرهما : هو القرآن ورجح لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن هذا القرآن هو حبل الله " ، وفي لفظ : " القرآن حبل الله المتين " ، حتى زعم بعضهم أن تفسيره بخلافه غفلة ، إذ لا عطر بعد عروس .

                                                                                                          وعن قتادة أيضا ، وغيره : هو عهد الله وأمره .

                                                                                                          وعن ابن مسعود : أنه الجماعة ، قال ابن عبد البر : وهو الظاهر في الحديث ، والأشبه بسياقه .

                                                                                                          وأما القرآن ، فمأمور بالاعتصام به في غير ما آية ، وغير ما حديث ، أن المراد هنا الجماعة على إمام يسمع له ويطاع ، فيكون ولي من لا ولي له في نكاح ، وتقديم قضائه للعقد على أيتام ، وسائر الأحكام ، ويقيم الجمعة ، والعيد ، ويأمن به السبل ، وينتصف به المظلوم ، ويجاهد عن الأمة عدوها ، ويقسم بينهما فيهما ; لأن الاختلاف والفرقة هلكة ، والجماعة نجاة ، قال : وهو عندي معنى متداخل متقارب ; لأن القرآن يأمر بالألفة ، وينهى عن الفرقة .

                                                                                                          ( و ) الثالثة : ( أن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) ، وهو الإمام ، ونوابه بمعاونتهم على الحق ، وطاعته فيه ، وأمرهم به ، وتذكيرهم برفق ولطف ، وإعلامهم بما غفلوا عنه من حقوق المسلمين ، وترك الخروج عليهم ، والدعاء عليهم ، وبتألف قلوب الناس لطاعتهم ، والصلاة خلفهم ، والجهاد معهم ، وأداء الصدقات لهم ، وأن لا يطروا بالثناء الكاذب ، وأن يدعى لهم بالصلاح ، وقيل : هم العلماء ، فنصيحتهم قبول ما رووه ، وتقليدهم في الأحكام ، وإحسان الظن بهم .

                                                                                                          ( ويسخط ) ، وفي رواية : ويكره ( لكم قيل وقال ) ، قال مالك : هو الإكثار من الكلام نحو قول الناس : قال فلان ، وفعل فلان ، والخوض فيما لا ينبغي ، فهما مصدران أريد بهما المقاولة ، والخوض في أخبار الناس ، وقيل : فعلان ماضيان .

                                                                                                          ( وإضاعة المال ) بصرفه في غير وجوهه الشرعية ، وتعريضه للتلف ; لأن ذلك إفساد ، والله لا يحب الفساد ; لأنه إذا ضاع ماله ، تعرض لما في أيدي الناس .

                                                                                                          وحكى أبو عمر في معناه ثلاثة أقوال : أحدها أنه [ ص: 653 ] الحيوان يحسن إليه ، ولا يضيعه مالكه فيهلك ، وحجته أن عامة الوصية النبوية الصلاة ، وما ملكت أيمانكم .

                                                                                                          والثاني : ترك إصلاحه ، والنظر فيه وكسبه .

                                                                                                          والثالث : إنفاقه في غير حقه من الباطل ، والسرف ، انتهى ، باختصار .

                                                                                                          ( وكثرة السؤال ) ، قال أبو عمر : معناه عند أكثر العلماء التكثير من المسائل النوازل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولودات ، وقيل سؤال المال ، والإلحاح فيه على المخلوقين لعطفه على إضاعة المال ، وقال مالك : لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، أم هو مسألة الناس أموالهم ؟ إلا أن الظاهر في الحديث كراهة السؤال عن المسائل ، إذا كان ذلك الإكثار لا على الحاجة عند نزول النازلة بين كثيرة وقليلة ، وكان أصل هذا أنهم كانوا يسألون عن أشياء ، ويلحون فيها فينزل تحريمها ، قال - تعالى - : ( لا تسألوا عن أشياء ) ( سورة المائدة : الآية 101 ) الآية ، والسؤال اليوم لا يخاف منه نزول تحريم ولا تحليل ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثا عن معنى يجب الوقوف عليه ، فلا بأس ، فشفاء العي السؤال ما لم يبلغ الجدال المنهي عنه ، ومن سأل متعنتا ، لم يحل له قليل السؤال ، ولا كثيره ، انتهى ، ملخصا .

                                                                                                          وقيل : المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله ، وتفاصيل أمره ، فيدخل في سؤاله عما لا يعنيه ، ويتضمن حصول الحرج في حق المسئول ، فإنه قد لا يحب إخباره بأحواله ، فإن أخبر شق عليه ، وإن كذب في الإخبار ، أو تكلف التعريض لحقته المشقة ، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب ، والحديث رواه مسلم من طريق جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة موصولا به ، وهو يقوي رواية الأكثر عن مالك موصولا ، ولعله حدث بالوجهين : الوصل والإرسال .




                                                                                                          الخدمات العلمية