الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4873 باب رفع الصوت بالذكر

                                                                                                                              وأورده النووي، في (باب استحباب خفض الصوت بالذكر، إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها: كالتلبية وغيرها. واستحباب الإكثار من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله") .

                                                                                                                              [ ص: 593 ] (حديث الباب) وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 25، 26 جـ 17، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن أبي موسى قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم قال وأنا خلفه وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله فقال يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة فقلت بلى يا رسول الله قال قل لا حول ولا قوة إلا بالله ) .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي موسى) رضي الله عنه؛ (قال كنا مع النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم، في سفر؛ فجعل الناس يجهرون بالتكبير) .

                                                                                                                              وفي البخاري، عن أبي موسى بلفظ: قال: أخذ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ في عقبة - أو قال في ثنية. قال: فلما علا عليها رجل: نادى، فرفع صوته: "لا إله إلا الله، والله أكبر".

                                                                                                                              وفي رواية أخرى، عنه، عند مسلم : "أنهم كانوا مع رسول الله، [ ص: 594 ] صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهم يصعدون في ثنية. قال: فجعل رجل، كلما علا ثنية: نادى: لا إله إلا الله، والله أكبر" الحديث.

                                                                                                                              (فقال النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم: أيها الناس ! اربعوا) : بهمزة وصل، وبفتح الباء. معناه: ارفقوا (على أنفسكم) ، واخفضوا أصواتكم. (إنكم ليس تدعون: أصم، ولا غائبا) .

                                                                                                                              ورفع الصوت: إنما يفعله الإنسان، لبعد من يخاطبه، ليسمعه.

                                                                                                                              وأنتم تدعون الله تعالى. وليس هو بأصم، ولا غائب.

                                                                                                                              (إنكم تدعون: سميعا قريبا) أي: بل هو "سميع قريب". يسمع دعوتكم: من دون جهر، ورفع الصوت.

                                                                                                                              (وهو معكم) قال النووي : أي بالعلم، والإحاطة.

                                                                                                                              والأولى: عدم التأويل، مع الإيمان بالمعنية: بلا كيف.

                                                                                                                              قال: ففيه: الندب إلى خفض الصوت: بالذكر، إذا لم تدع حاجة إلى رفعه. فإنه إذا خفضه، كان أبلغ: في توقيره، وتعظيمه. فإن دعت حاجة إلى الرفع: رفع. كما جاءت به أحاديث.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: "والذي تدعونه: أقرب إلى أحدكم، من عنق راحلة أحدكم". انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 595 ] وهذا القرب: نؤمن به، ولا نقول كيف؟ وهو موافق لقوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } .

                                                                                                                              قال: وأنا خلفه، وأنا أقول: لا حول، ولا قوة: إلا بالله، (فقال: يا عبد الله بن قيس ! ) هذا اسم "أبي موسى". راوي حديث الباب.

                                                                                                                              (ألا أدلك: على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى. يا رسول الله ! فقال: "قل: لا حول، ولا قوة: إلا بالله") .

                                                                                                                              قال العلماء: سبب ذلك: أنها كلمة استسلام، وتفويض، إلى الله تعالى. واعتراف: بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره. وأن العبد: لا يملك شيئا من الأمر.

                                                                                                                              ومعنى "الكنز" هنا: أنه ثواب مدخر في الجنة. وهو ثواب نفيس. كما أن الكنز أنفس أموالكم.

                                                                                                                              قال (في شرح المشكاة) : هذا التركيب، ليس باستعارة: لذكر المشبه "وهو الحوقلة"، والمشبه به "وهو الكنز". ولا التشبيه الصرف: لبيان الكنز، بقوله: "من كنوز الجنة". بل هو إدخال الشيء في جنس، وجعله: أحد أنواعه على التغليب.

                                                                                                                              فالكنز إذا نوعان؛

                                                                                                                              [ ص: 596 ] الأول: المتعارف. وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض، ويحفظ.

                                                                                                                              والثاني: غير المتعارف. وهو هذه الكلمة الجامعة، المكتنزة بالمعاني الإلهية، لما أنها محتوية على "التوحيد الخفي". لأنه إذا نفيت الحيلة والاستطاعة عما من شأنه ذلك، وأثبتت لله - على سبيل الحصر: بإيجاده، واستعانته، وتوفيقه -: لم يخرج شيء من ملكه، وملكوته.

                                                                                                                              ومن الدليل على ذلك - أنها دالة على التوحيد الخفي -: قوله صلى الله عليه وآله وسلم، لأبي موسى: "ألا أدلك: على كنز" مع أنه كان يذكرها في نفسه. والدلالة: إنما تستقيم على ما لم يكن علمه. وهو أنه لم يعلم: أنه توحيد خفي، وكنز من الكنوز. ولأنه لم يقل له: ما ذكرته، كنز من الكنوز، بل صرح بها، فقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" تنبيها له: على هذا السر. انتهى.

                                                                                                                              قال أهل اللغة: "الحول": الحركة، والحيلة. أي: لا حركة، ولا استطاعة، ولا حيلة: إلا بمشيئة الله تعالى.

                                                                                                                              وقيل: معناه: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير: إلا بالله.

                                                                                                                              [ ص: 597 ] وقيل: لا حول عن معصية الله: إلا بعصمته. ولا قوة على طاعته: إلا بمعونته. قال النووي : وحكي هذا عن "ابن مسعود". وكله متقارب. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولا مانع من إرادة: جميع هذه المعاني.

                                                                                                                              وفي إعرابه، ونحوه مما تكررت فيه: "لا النافية للجنس" مع اسمها: الوجوه الخمسة، المقررة في كتب العربية؛ فتح الأول والثاني معا. ورفعهما معا.

                                                                                                                              وفتح الأول، ورفع الثاني. وعكسه. وفتح الأول، ونصب الثاني.

                                                                                                                              [ ص: 598 ] قال أهل اللغة: ويعبر عن هذه الكلمة: بالحوقلة، والحولقة.

                                                                                                                              وبالأول: جزم الأزهري، والجمهور.

                                                                                                                              وبالثاني: جزم الجوهري.

                                                                                                                              ويقال أيضا: "لا حيل ولا قوة" في لغة عربية. حكاه الجوهري، وغيره.

                                                                                                                              (فضل الحوقلة)

                                                                                                                              وفي فضل "الحوقلة": أحاديث كثيرة؛

                                                                                                                              منها: حديث "معاذ"؛ أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "ألا أدلك: على باب، من أبواب الجنة؟" قال: وما هو؟ قال: "لا حول، ولا قوة إلا بالله". أخرجه أحمد، والطبراني في الكبير. قال المنذري : إسناده صحيح - إن شاء الله تعالى -؛ فإن عطاء بن السائب ثقة. وقد حدث عنه "حماد بن سلمة"، قبل اختلاطه. انتهى.

                                                                                                                              وقال في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح، إلا أنه قال: "ألا أدلك: على كنز من كنوز الجنة؟". وفي حديث "سعد بن عبادة": مثل الأول. يعني: "على باب من أبواب الجنة". أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما. وفي حديث "أبي أيوب الأنصاري "وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله". أخرجه "ابن حبان" وصححه، وأحمد : بإسناد حسن.

                                                                                                                              [ ص: 599 ] قال في "مجمع الزوائد": ورجال أحمد، رجال الصحيح. غير " عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب "، وهو ثقة لم يتكلم فيه أحد. ووثقه " ابن حبان ". انتهى.

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة " يرفعه: (لا حول، ولا قوة إلا بالله: دواء من تسعة وتسعين داء، أيسرها؛ الهم") . أخرجه الحاكم، والطبراني . قال في "مجمع الزوائد": وفيه " بشر بن رافع الحارثي، وهو ضعيف، وقد وثق. وبقية رجاله: رجال الصحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية