الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم أشار الناظم إلى إيضاح ما أفهمه من القاعدة التي ذكرها مصرحا بأن أفعال المكره لغو لا يؤاخذ بها فقال :

مطلب : في أن أفعال وأقوال المكره لغو إلا في القتل ، والإسلام والزنا :

ولغو مع الإكراه أفعال مكره سوى القتل والإسلام ثم الزنا قد ( ولغو ) قال في القاموس : اللغو واللغا كالفتى السقط ، وما لا يعتد به من كلام وغيره كاللغوى كسكرى ( مع الإكراه ) ممن يتأتى منه ( أفعال مكره ) بفتح الراء ، وكذا أقواله من باب أولى ، فإن من العلماء من قال : إن التقية تختص بالأقوال دون الأفعال وروي ذلك عن ابن عباس وأبي العالية وأبي الشعثاء والربيع بن أنس والضحاك ، وهو رواية عن الإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا قال : أو فعل لداعي الإكراه فقوله وفعله لغو ، وجود ذلك وعدمه منه سواء .

فلو أكره على الوضوء ، أو الغسل ففعل ذلك لداعي الإكراه لم يصح منه ، وكذا لو أكره الصائم على الأكل أو الشرب فأكل ، أو شرب لداعي الإكراه لم يفطر على الصحيح من المذهب .

ومثل ذلك لو أكره على البيع بغير حق ، أو على الإقرار ، أو على الكفر ففعل لداعي الإكراه مع سلامة قلبه لم يضره ذلك ، ولو أكره على السجود لصنم ، فإن كان الصنم تجاه القبلة ، أو غيرها فليسجد ويجعل نيته لله تعالى ، والمذهب ، ولو لم ينو ذلك لم يكفر إذا سجد لداعي الإكراه ولكن النية أولى خروجا من الخلاف .

قال الحافظ ابن رجب : وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته ، وأن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه ، وقد دل عليه قوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار رضي الله عنه { إن عادوا فعد } وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدونه من قول الكفر ، ففعل والله أعلم .

[ ص: 84 ] ثم استثنى الناظم رحمه الله تعالى ثلاث صور : الأولى ما أشار إليها بقوله ( سوى القتل ) لا يكون فعل المكره إذا فعله لغوا ، بل مؤاخذا به ، فلو أكره مكلف على قتل إنسان يكافئه فقتله قتل به المكره والمكره معا هذا هو المذهب المشهور ، والقول الصحيح المنصور ، وعند أبي بكر أن القتل على المباشر دون الآمر ، والمذهب عليهما مع الإكراه المعتبر ; لأن المكره حالة الإكراه يقع التعارض عنده بين تفويت نفسه ونفس غيره وهما بالنسبة إلى عدل الشرع سواء ، فإذا أقدم المكره على القتل فقد آثر بقاء نفسه على فواتها وفناء نفس غيره فصار مختارا ، وخرج عن حد الإكراه ، وهو مكلف في هذه الصورة خلافا للطوفي وأبي الخطاب في الانتصار .

ومثله لو قيل له : اقتل نفسك وإلا قتلتك فليس بإكراه فلا يباح له قتل نفسه . واختاره في الرعاية أنه يكون إكراها ، والمذهب لا والله أعلم ( و ) الصورة الثانية ما أشار إليها بقوله وسوى ( الإسلام ) فيما إذا كان المكره عليه غير ذمي ولا مستأمن وأكره على الإسلام فأسلم ، فإن إسلامه صحيح ; لأنه إكراه بحق .

قال في الإقناع : ولو أكره ذمي ، أو مستأمن على إقراره به يعني الإسلام لم يصح ; لأنه ظلم حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا ، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه ، وإن مات قبل زوال الإكراه فحكمه حكم الكفار ، وإن رجع إلى الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام بخلاف حربي ومرتد ، فإنه يصح إكراههما عليه ويصح ظاهرا ، فإن مات الحربي ، أو المرتد قبل زوال الإكراه عنه فحكمه حكم المسلمين ، وفي الباطن إن لم يعتقد الإسلام بقلبه فهو باق على كفره باطنا ولا حظ له في الإسلام .

قال في المغني : أجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه ، والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لا يلزمه والله أعلم .

( تنبيه ) : عبارة الفروع : وإن أكره حربي على إقراره به لم يصح ; لأنه ظلم واعترضه ابن قندس في حواشيه ، والقاضي علاء الدين في تصحيحه . قال في تصحيح الفروع عند قوله : وإن أكره حربي ، كذا في النسخ ، وصوابه : وإن أكره ذمي وبعضهم أصلحها كذلك ، انتهى .

وفي قواعد ابن اللحام صحح إسلام المرتد ، والحربي ; لأنه إكراه بحق [ ص: 85 ] ولو أكره الذمي لا يصح إسلامه ; لأن إكراهه ظلم ، وفي الانتصار احتمال ; لأن الإسلام واجب عليه في الجملة ، وإنما ذكرت لك هذا حرصا عليك من أن يسبق إلى ذهنك أن ما في الفروع قول في المذهب ، بل سبق قلم ، والله أعلم .

والصورة الثالثة ما ذكرها بقوله ( ثم ) ، وهي حرف عطف وترتيب ، والمراد بالترتيب هنا في الذكر مع أن الحامل للإتيان بها ضرورة النظم ( الزنا ) ، وهو من أكبر الكبائر ( قد ) أي حسب بمعنى فقط ، فإنه لا يباح بإكراه كما قدمنا ; لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار ، والإكراه ينافيه ، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزمه الحد ، والإثم ، كذا قالوا رحمهم الله تعالى ، وقال الشافعي لا حد عليه . قال الإمام الموفق في المغني : وهو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى ، وأجاب عن قول الأصحاب أن التخويف ينافي الانتشار بأنه لا يصح ; لأن التخويف بترك الفعل ، والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك انتهى . وأيضا الإكراه شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .

وفي الفروع : وإن أكره رجل فزنى فعنه يحد اختاره الأكثر ، وعنه لا كامرأة مكرهة ، أو غلام يعني على الفعل فيه بإلجاء ، أو تهديد ، أو منع طعام مع اضطرار ونحوه ، انتهى .

وألحق تقي الدين بن اللحام بذلك مسائل منها لو أكره على وطء الحائض . ومنها لو أكره على وطء امرأته في نهار رمضان . ومنها لو أكره على الكلام في الصلاة ، ومنها لو أكره على إفساد وضوئه . ومنها لو أكره على الرضاع ، فإنه يثبت حكمه مع الإكراه ذكره القاضي في الجامع الكبير محل وفاق . ومنها لو أكره المؤلي على المؤلى منها فوطئ فقد فاء إليها . قال في الترغيب : إذ الإكراه على الوطء لا يتصور ، وهو كما قال : فإن المعتمد في المذهب في هذه المسائل ما ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية