الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) [ ص: 10 ] اعلم أنه سبحانه لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد :

                                                                                                                                                                                                                                            فالنوع الأول : ما ذكره في هذه الآية ولا شبهة في أن المراد ألم تعلم ، لأن التسبيح لا تتناوله الرؤية بالبصر ويتناوله العلم بالقلب ، وهذا الكلام وإن كان ظاهره استفهاما فالمراد التقرير والبيان ، فنبه تعالى على ما يلزم من تعظيمه بأن من في السماوات يسبح له وكذلك من في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه إما أن يكون المراد من التسبيح دلالة هذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص موصوفا بنعوت الجلال ، وإما أن يكون المراد منه أنها تنطق بالتسبيح وتتكلم به ، وإما أن يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان ، والقسم الأول أقرب لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في الأرض من لا يكون مكلفا لا يسبح بهذا المعنى ، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضا بهذا المعنى كالكفار .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الثالث وهو أن يقال إن من في السماوات وهم الملائكة يسبحون باللسان ، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان ومنهم من يسبح على سبيل الدلالة فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا ، وهو غير جائز . فلم يبق إلا القسم الأول ؛ وذلك لأن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله سبحانه وتعالى ، وعلى قدرته وإلهيته وتوحيده وعدله فسمي ذلك تنزيها على وجه التوسع . فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء ؟ قلنا لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر وهي العقل والنطق والفهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والطير صافات ) فلقائل أن يقول ما وجه اتصال هذا بما قبله ؟ والجواب : أنه سبحانه لما ذكر أن أهل السماوات وأهل الأرض يسبحون ذكر أن الذين استقروا في الهواء الذي هو بين السماء والأرض وهو الطير يسبحون ، وذلك لأن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجودا منها له سبحانه ، وذلك يؤكد ما ذكرناه من أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأحوال على التنزيه لا النطق اللساني .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) ففيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد : كل قد علم الله صلاته وتسبيحه ، قالوا ويدل عليه قوله سبحانه : ( والله عليم بما يفعلون ) وهو اختيار جمهور المتكلمين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يعود الضمير في الصلاة والتسبيح على لفظ ( كل ) أي أنهم يعلمون ما يجب عليهم من الصلاة والتسبيح .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن تكون الهاء راجعة على ذكر الله يعني قد علم كل مسبح وكل مصل صلاة الله التي كلفه إياها ، وعلى هذين التقديرين فقوله : ( والله عليم ) استئناف ، وروي عن أبي ثابت قال : كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر - رضي الله عنه - فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ قال : لا ، قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله تعالى ، لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة أنها أشد نقصانا من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله تعالى استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال على ما تقدم تقريره .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 11 ] قال بعض العلماء إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه! وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : احتيالها في كيفية الاصطياد ، فتأمل في العنكبوت كيف يأتي بالحيل اللطيفة في اصطياد الذباب ، ويقال إن الدب يستلقي في ممر الثور ، فإذا أرام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ، وأنه يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويضرب الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاود يتشممه ويتحسس نفسه ، ويصعد الشجر أخف صعود ، ويهشم الجوز بين كفيه تعريضا بالواحدة وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيذر قشره ويستف لبه ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة وبناء البيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : انتقال الكراكي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلبا لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : إن من خواص الخيل أن كل واحد منها يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتا ما ، والكلاب تتصايح بالعية المعروفة لها ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان فأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها كالعقعق وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطير كالشوك فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من ذلك الشوك فيفتح فاه فيخرج الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا جبليا ثم تعود وقد عوفيت من ذلك ، وحكى بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ولا يزال ذلك دأبه فكان ذلك الشيخ قاعدا في كن غائر فعل القنصة ، وكانت البقلة قريبة من مكمنه فلما اشتغل الحبارى بالأفعى قلع البقلة فعادت الحبارى إلى منبتها ففقدته وأخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا حتى خر ميتا ، فعلم الشيخ أنه كان يتعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة كانت هي الجرجير البري ، وأما ابن عرس فيستظهر في قتال الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية مما تنفر منها الأفعى . والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح ، وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضا داوت جراحها بالصعتر الجبلي .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : القنافذ قد تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها وكان بالقسطنطينية رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذا في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به ، والخطاف صانع جيد في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب ، فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدرا من الطين ، وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ويأخذ ذرقها بمنقاره ويرميها عن العش ، ثم يعلمها إلقاء الذرق نحو طرف العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبجة وقربت منه مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها ، وناقر الخشب قلما يقع على الأرض بل على الشجر ينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دودا ، والغرانيق تصعد في الجو جدا عند الطيران فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا يلزم به بعضها بعضا ، فإذا نامت على جبل فإنها تضع رءوسها تحت أجنحتها ، إلا القائد فإنه ينام مكشوف [ ص: 12 ] الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع حرسا صاح ، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضا أمر عجيب ، واعلم أن الاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان ، والمقصود أن الأكياس من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل . فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنها ملهمة من عند الله تعالى بمعرفته والثناء عليه ، وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ؟ ولله در شهاب الإسلام السمعاني حيث قال : جل جناب الجلال ، عن أن يوزن بميزان الاعتزال .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله سبحانه : ( ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) فهو مع وجازته فيه دلالة على تمام علم المبدأ والمعاد ، فقوله : ( ولله ملك السماوات والأرض ) تنبيه على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث والممكن والمحدث لا يوجدان إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، فدخل في هذه القضية جميع الأجرام والأعراض وأفعال العباد وأقوالهم وخواطرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وإلى الله المصير ) فهو عبارة تامة في معرفة المعاد وهو أنه لا بد من مصير الكل إليه سبحانه ، وله وجه آخر وهو أن الوجود يبدأ من الأشرف فالأشرف نازلا إلى الأخس فالأخس ، ثم يأخذ من الأخس فالأخس مترقيا إلى الأشرف فالأشرف ، فإنه يكون جسما ثم يصيره موصوفا بالنباتية ثم الحيوانية ثم الإنسانية ثم الملكية ثم ينتهي إلى واجب الوجود لذاته .

                                                                                                                                                                                                                                            فالاعتبار الأول هو قوله : ( ولله ملك السماوات والأرض ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني هو قوله : ( وإلى الله المصير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية