الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة البويب

لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى ، وكان فيمن ندب بجيلة ، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله ؛ لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعهم فوعده ذلك ، فلما ولي عمر طلب منه ذلك فكتب إلى عماله : إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام ، فأخرجوه إلى جرير ، ففعلوا ذلك ، فلما اجتمعوا أمرهم عمر العراق ، وأبوا إلا الشام ، فعزم عمر على العراق ، وينفلهم ربع الخمس ، فأجابوا ، وسيرهم إلى المثنى بن حارثة ، وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى ، وكتب إلى أهل الردة فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى ، وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب ، فتوافوا إليه في جمع عظيم . وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى ، وقالوا : نقاتل مع قومنا .

[ ص: 280 ] وبلغ الخبر رستم والفيرزان ، فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة ، فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان ، فاستبطن فرات بادقلى ، وكتب إلى جرير وعصمة وكل من أتاه ممدا له يعلمهم الخبر ، ويأمرهم بقصد البويب ، فهو الموعد ، فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات ، فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم ، وأرسل مهران إلى المثنى يقول : إما أن تعبر إلينا ، وإما أن نعبر إليك . فقال المثنى : اعبروا . فعبر مهران ، فنزل على شاطئ الفرات ، وعبى المثنى أصحابه ، وكان في رمضان ، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم ، فأفطروا .

وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية ، وبسر بن أبي رهم ، وعلى مجردته المعنى أخوه ، وعلى الرجل مسعود أخوه ، وعلى الردء مذعور ، وكان على مجنبتي مهران بن الأزاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه . وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف ، مع كل صف فيل ، ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجل ، فقال المثنى للمسلمين : إن الذي تسمعون فشل ، فالزموا الصمت .

ودنوا من المسلمين ، وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشموس ، وإنما سمي بذلك للينه ، وكان لا يركبه إلا إذا قاتل ، فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم ، ولكلهم يقول : إني لأرجو أن لا يؤتى الناس من قبلكم اليوم ، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم ، فيجيبونه بمثل ذلك ، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل ، وخلط الناس في المحبوب والمكروه ، فلم يقدر أحد أن يعيب له قولا ولا فعلا ، وقال : إني مكبر ثلاثا ، فتهيئوا ، ثم احملوا في الرابعة . فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم ، وركدت خيلهم وحربهم مليا ، فرأى المثنى خللا في بني عجل ، فجعل يمد لحيته لما يرى منهم ، وأرسل إليهم يقول : الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول : لا تفضحوا المسلمين اليوم . فقالوا : نعم ، واعتدلوا . فضحك فرحا .

فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال النمري : إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا ، فإذا حملت على مهران فاحمل معي ، فأجابه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ، ثم خالطوهم واجتمع القلبان ، وارتفع الغبار والمجنبات تقتل ، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم ، لا المسلمون ولا المشركون ، وارتث مسعود أخو المثنى يومئذ وجماعة من أعيان المسلمين ، فلما أصيب مسعود تضعضع من [ ص: 281 ] معه ، فقال : يا معشر بكر ، ارفعوا رايتكم رفعكم الله ، ولا يهولنكم مصرعي . وكان المثنى قال لهم : إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم .

وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين ، وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله ، وكان التغلبي قد جلب خيلا هو وجماعة من تغلب ، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب ، قال : وأفنى المثنى قلب المشركين ، والمجنبات بعضها يقاتل بعضا . فلما رأوه قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين ، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم : عاداتكم في أمثالكم ، انصروا الله ينصركم ، حتى هزموا الفرس ، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم ، فافترقوا مصعدين ومنحدرين ، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثا .

فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها ، بقيت عظام القتلى دهرا طويلا ، وكانوا يحزرون القتلى مائة ألف ، وسمي ذلك اليوم الأعشار ، أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة . وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة ، وغالب الكناني وعرفجة الأزدي من أصحاب التسعة . وقتل المشركون فيما بين السكون المثنى على أخذه بالجسر وقال : عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم ، فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها ، فإنها كانت زلة ، فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع .

ومات أناس من الجرحى ، منهم : مسعود أخو المثنى ، وخالد بن هلال ، فصلى عليهم المثنى وقال : والله إنه ليهون وجدي أن صبروا وشهدوا البويب ، ولم ينكلوا .

وكان قد أصاب المسلمون غنما ودقيقا وبقرا ، فبعثوا به إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس . وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم ، فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئا كثيرا ، فقسمه فيهم ، ونفل أهل البلاد ، وأعطى بجيلة ربع الخمس ، وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم ، وأنه لا مانع [ ص: 282 ] دون القوم ، ويستأذنونه في الإقدام ، فأذن لهم ، فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى ، ثم مخروا السواد فيما بينهم وبين دجلة ، لا يخافون كيدا ولا يلقون مانعا ، ورجعت مسالح العجم إليهم ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة .

( بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية