الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

وهذا المعنى الذي نبه عليه «ابن كلاب» من مضاهاة الجهمية للدهرية والثنوية كلام جيد، ونحن كنا قد كتبنا ما يتعلق بذلك في أثناء الكلام، كما سيجيء قبل أن نقف على كلامه، وبينا أن قول الفلاسفة الذين يقولون: بأن العالم متولد عنه لازم له، هو نحو قول من ينكر الصانع بالكلية، وهذا الذي سماه هؤلاء الدهر، هو الذي يسميه أولئك واجب الوجود، وقول الجهمية مضاه لقولهم في لزوم تعطيل الصانع أيضا، ولهذا ذكرنا في غير هذا الموضع أن أسانيد «جهم» ترجع إلى المشركين والصابئين والمبدلين واليهود المبدلين، وذكرنا أن شر هؤلاء هم القرامطة والباطنية نفاة الأسماء [ ص: 151 ] والصفات مطلقا، وأن قولهم مأخوذ من قول ملاحدة المجوس، وقول ملاحدة الفلاسفة الصابئين الدهريين. وهذا يبين صحة ما ذكره «ابن كلاب» من مضاهاة الجهمية لهاتين الأمتين; الدهرية الصابئين المشركين والمجوس الثنوية. ولهذا كان قول الاتحادية من الجهمية، هو في الحقيقة قول هؤلاء، ومضمونه تعطيل الصانع، وهو قريب من قول من يقول من الجهمية: إنه في كل مكان، فإنهم يجعلونه وجود الموجودات، كما قد شرحناه في موضعه، وكل من لم يقل أن الرب سبحانه واحد منفرد مباين لمخلوقاته كان من هذه الطوائف، وفي إنكار «ابن كلاب» على الجهمية لما شبههم بالمجوس -وقال: «كذلك زعمتم أن الواحد ليس كمثله شيء، تعالى عما قلتم، كان لا نهاية له، ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها، ولا يفارقها ولا تفارقه، فأعطيتم [ ص: 152 ] معناهم ومنعتم القول والعبارة» -.

دليل على أنه منع من القول بأن الله لا نهاية له، وأنه لا ينفي النهاية والحد، كما زعم ابن فورك، وقد فسر الرجل معناه فيما نفاه من الحد، فإنه جعل هذا من منكر قول الجهمية، ولا ريب أن ما أثبته، من أنه واحد منفرد بنفسه، مباين لمخلوقاته، فوق العالم، ينافي دعوى أنه لا نهاية له، ثم قال «ابن فورك»:

«فصل آخر، وذكر بعد ذلك كلاما يدل على أن» أصله -وهو الحق- أن اجتماع الشيئين من طريق الإثبات، في وصف لا يجب به التشبيه، كما لا يجب باجتماعهما في وصف من طريق النفي، وهو قوله في إلزام المعتزلة إذ قالوا له: إنك أوجبت التشبيه، إذ قلت: أن الله تعالى مباين منفرد من خلقه، لأجل أن ذلك إذا وصف به، ووصف به الخلق، واشتركا فيه، تشابها.

فقال: «إذا كان يلزم -بزعمكم، إذا قلنا: إن الله تعالى واحد، منفرد- التشبيه. فكذلك إذا قلتم: إنه واحد لا منفرد، وواحد لا منفرد، لأن الوصفين جميعا في الخلق، منفرد ومنفرد ولا منفرد ولا منفرد، فلم لا يكون إذا كان حكم [ ص: 153 ] ما كان منفردا، حكم ما كان مفردا، أن يكون حكم ما لا ينفرد حكم ما لا ينفرد، إذا كان جميعا في الخلق ثابتين، فإن مرا بأبصار قلوبكم، حيث أريد لكم، فإنكم ستجدون ذلك كما وصفنا لكم».

التالي السابق


الخدمات العلمية