الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أبنى وهي أرض الشراة ناحية البلقاء

قالوا : لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجره ، أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، الناس بالتهيؤ لغزو الروم ، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد ، فقال : "سر إلى موضع مقتل أبيك ، فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش ، فأغر صباحا على أهل أبنى ، وحرق عليهم ، وأسرع السير تسبق الأخبار ، فإن ظفرك الله ، تعالى ، فأقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء ، وقدم العيون والطلائع معك" .

فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وجعه ، فحم وصدع ، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ، ثم قال : "اغز بسم الله وفي سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله" . فخرج بلوائه معقودا ، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وعسكر بالجرف ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار ، إلا انتدب في تلك الغزوة ، منهم : أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وقتادة بن النعمان ، وسلمة بن أسلم بن حريس ، فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ؟ فغضب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، غضبا شديدا ، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ، فصعد المنبر ، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : "أما بعد ، أيها الناس ، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة ، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإنهما لمخيلان لكل خير - أي مظنة لكل خير - فاستوصوا به خيرا ، فإنه من خياركم" ، ثم نزل فدخل بيته ، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة . [ ص: 370 ]

وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ويخرجون إلى المعسكر بالجرف ، وثقل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول : "أنفذوا بعث أسامة" . فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وجعه ، فدخل أسامة من معسكره والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، مغمور ، وهو اليوم الذي لدوه فيه ، فطأطأ أسامة فقبله ، والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، لا يتكلم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة . قال أسامة : فعرفت أنه يدعو لي . ورجع أسامة إلى معسكره ، ثم دخل يوم الاثنين ، وأصبح رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مفيقا ، فقال له : "اغد على بركة الله" . فودعه أسامة وخرج إلى معسكره ، فأمر الناس بالرحيل ، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول : إن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يموت . فأقبل وأقبل معه عمر ، وأبو عبيدة ، فانتهوا إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو يموت ، فتوفي حين زاغت الشمس ، يوم الاثنين ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول .

ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقودا ، حتى أتى باب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فغرزه عنده .

فلما بويع ، لأبي بكر ، أمر بريدة بن الحصيب أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه . فمضى به إلى معسكرهم الأول ، فلما ارتدت العرب ، كلم أبو بكر في حبس أسامة فأبى ، وكلم أبو بكر ، أسامة في عمر أن يأذن له في التخلف ففعل ، فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة ، خرج أسامة ، فسار إلى أبنى عشرين ليلة ، فشن عليهم الغارة ، وكان شعارهم : "يا منصور أمت" ، فقتل من أشرف له ، وسبى من قدم عليه ، وحرق في طوائفها بالنار ، وحرق منازلهم وحرثهم ونخلهم ، فصارت أعاصير من الدخاخين ، وأجال الخيل في عرصاتهم ، وأقاموا يومهم ذلك من تعبئة ما أصابوا من الغنائم . وكان أسامة على فرس أبيه "سبحة" ، وقتل قاتل أبيه في الغارة ، وأسهم للفرس سهمين ، وللفارس سهما ، وأخذ لنفسه مثل ذلك . فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ، ثم أغذ السير فوردوا وادي القرى في تسع ليال ، ثم بعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم ، ثم قصد بعد في السير ، فسار إلى المدينة [ ص: 371 ] ستا ، وما أصيب من المسلمين أحد . وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم ، ودخل على فرس أبيه "سبحة" ، واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب ، حتى انتهى إلى باب المسجد ، فدخل فصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى بيته .

وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة ، فبعث رابطة يكونون بالبلقاء ، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .


*** [ ص: 372 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية