الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4929 باب الحض على التوبة

                                                                                                                              وأورده النووي، في (كتاب التوبة).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 60، 61 ج 17، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن الحارث بن سويد؛ قال: دخلت على عبد الله، أعوده - وهو [ ص: 9 ] مريض - فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «لله أشد فرحا: بتوبة عبده المؤمن، من رجل، في أرض دوية مهلكة. معه راحلته، عليها: طعامه، وشرابه. فنام، فاستيقظ، وقد ذهبت. فطلبها، حتى أدركه العطش. ثم قال: أرجع إلى مكاني، الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده، ليموت، فاستيقظ - وعنده راحلته، وعليها: زاده، وطعامه، وشرابه - فالله أشد فرحا: بتوبة العبد المؤمن، من هذا: براحلته، وزاده»)

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن الحارث بن سويد ؛ قال: دخلت على عبد الله، أعوده - وهو مريض -، فحدثنا بحديثين: حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ؛ يقول: لله): بلام التأكيد، المفتوحة.

                                                                                                                              (أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية).

                                                                                                                              قال النووي: قال العلماء: «فرح الله تعالى»: هو رضاه. قال المازري: الفرح على وجوه ؛ منها: «السرور». ويقاربه: الرضاء بالمسرور به. قال: فالمراد هنا أن الله تعالى، يرضى توبة عبده، أشد [ ص: 10 ] مما يرضى واجد ضالته: بالفلاة. فعبر عن الرضاء: بالفرح، تأكيدا لمعنى الرضاء (في نفس السامع)، ومبالغة في تقريره. «ودوية»: بفتح الدال، وتشديد الواو والياء، جميعا. وفي رواية أخرى: «داوية» بزيادة ألف. وهي بتشديد الياء أيضا.

                                                                                                                              قال النووي: اتفق العلماء، على أنها «دوية». وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              قال أهل اللغة: «الدوية»: الأرض القفر، والفلاة: الخالية. قال الخليل: هي المفازة.

                                                                                                                              قالوا: ويقال: «دوية، وداوية».

                                                                                                                              فأما «الدوية»: فمنسوب إلى «الدو» بتشديد الواو. وهي «البرية» التي لا نبات بها.

                                                                                                                              وأما «الداوية): فهي على إبدال إحدى الواوين: ألفا، كما قيل في النسب إلى طي: «طائي».

                                                                                                                              (مهلكة): بفتح الميم، واللام وكسرها. وهي موضع خوف الهلاك. ويقال لها: «مفازة». كما يقال للديغ: «سليم».

                                                                                                                              (معه، راحلته، عليها: طعامه، وشرابه. فنام، فاستيقظ - وقد ذهبت -. فطلبها، حتى أدركه العطش. ثم قال: أرجع إلى مكاني [ ص: 11 ] الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده، ليموت. فاستيقظ) أي: من نومه. (وعنده راحلته: عليها زاده، وطعامه، وشرابه. فالله أشد فرحا: بتوبة العبد المؤمن، من هذا: براحلته، وزاده).

                                                                                                                              وفي رواية أخرى، عن «أنس بن مالك» عند مسلم ؛ يرفعه: «لله أشد فرحا بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم، كان على راحلته، بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها: طعامه وشرابه - فأيس منها. فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها - قد أيس من راحلته - فبينا هو كذلك: إذا هو بها، قائمة عنده. فأخذ بخطامها، ثم قال - من شدة الفرح -: اللهم! أنت عبدي، وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح» .

                                                                                                                              وهذا الحديث: رواه مسلم، والبخاري: بألفاظ.

                                                                                                                              قال عياض: إن مثل هذا صدر في حال الدهشة والذهول، لا يؤاخذ به الإنسان. وكذا حكايته عنه، على وجه العلم أو الفائدة الشرعية، لا على سبيل الهزء والعبث. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: حق العبارة: أن صدور مثل هذا الكلام، في حال شدة الفرح: لا يؤخذ عليه قائله. وهذا هو الموافق بظاهر لفظ الحديث. ويقاس عليه: أحوال أخرى: من شدة الحزن، أو الخوف، ونحوهما. فكل [ ص: 12 ] ذلك معفو. وهو فيه معذور لعدم اعتدال العقل، والفهم: في هذه الحالات.

                                                                                                                              وفيه: أن نقل الكفر: ليس بكفر. وفي القرآن الكريم، من أمثال هذا النقل كثير من أهل الكفر، والشرك، وعباد الأوثان، ومن هو مثلهم.

                                                                                                                              وفيه: فضيلة التوبة، وفرح الله سبحانه بها: من عباده.

                                                                                                                              اللهم ! ارزقنا توبة. وتب علينا. إنك أنت التواب الرحيم.

                                                                                                                              وحديث الباب: ذكره الراوي مرفوعا. ولم يذكر حديث عبد الله، عن نفسه. وقد ذكر البخاري (في صحيحه)، والترمذي، وغيرهما.

                                                                                                                              وهو قوله: «إن المؤمن يرى ذنوبه: كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه. والفاجر يرى ذنوبه: كذباب، مر على أنفه، فقال به - هكذا -».

                                                                                                                              معناه: يخاف المؤمن - لقوة إيمانه، وشدة خوفه - فلا يأمن العقوبة: بسبب ذنوبه. والمؤمن: دائم الخوف، والمراقبة. يستصغر عمله الصالح. ويخاف من صغير عمله.

                                                                                                                              والفاجر لا يبالي به، لاعتقاده: عدم حصول كبير ضرر بسببه.

                                                                                                                              [ ص: 13 ] والتعبير بالذباب - لكونه أخف الطير، وأحقره. ولأنه يدفع بالأقل وبالأنف -: للمبالغة في اعتقاد خفة الذنب، عنده.

                                                                                                                              ودل التمثيل الأول: على غاية الخوف، والاحتراز من الذنوب.

                                                                                                                              والثاني: على نهاية قلة المبالاة والاحتفال بها.




                                                                                                                              الخدمات العلمية