الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واذكر عبدنا أيوب قال ابن إسحاق : الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء غير أن اسم أبيه أموص، وقال ابن جرير : هو أيوب بن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط، وأن أباه ممن آمن بإبراهيم ، فعلى هذا كان - عليه السلام - قبل موسى ، وقال ابن جرير : كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان، وقوله تعالى: واذكر إلخ، عطف على "اذكر عبدنا داود "، وعدم تصدير قصة سليمان - عليه السلام - بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام، " وأيوب " عطف بيان لعبدنا، أو بدل منه بدل كل من كل، وقوله تعالى: إذ نادى ربه بدل اشتمال منه، أو من أيوب أني أي بأني. وقرأ عيسى بكسر همزة "إني"، مسني الشيطان وقرئ بإسكان ياء "مسني" وبإسقاطها، بنصب بضم النون وسكون الصاد التعب كالنصب بفتحتين، وقيل: هو جمع نصب كوثن ووثن، وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص، والجعفي، عن أبي بكر، وأبو معاذ عن نافع بضمتين وهي لغة، ولا مانع من كون الضمة الثانية عارضة للإتباع، وربما يقال: إن في ذلك رمزا إلى ثقل تعبه وشدته، وقرأ زيد بن علي ، والحسن ، والسدي، وابن أبي عبلة ، ويعقوب، والجحدري بفتحتين، وهي لغة أيضا، كالرشد والرشد، وقرأ أبو حيوة ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص بفتح النون، وسكون الصاد، قال الزمخشري : على أصل المصدر، ونص ابن عطية على أن ذلك لغة أيضا، قال بعد ذكر القراءات: وذلك كله بمعنى واحد، وهو المشقة، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم: أنصبني الأمر إذا شق علي، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 206 ] والتنوين للتفخيم، وكذا في قوله تعالى: وعذاب وأراد به الألم، وهو المراد بالضر في قوله: أني مسني الضر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: النصب والضر في الجسد، والعذاب في الأهل والمال، وهذا حكاية لكلامه - عليه السلام - الذي نادى به ربه - عز وجل - بعبارته، وإلا لقيل: إنه مسه إلخ، بالغيبة، وإسناد المس إلى الشيطان، قيل: على ظاهره، وذلك أنه عليه اللعنة سمع ثناء الملائكة - عليهم السلام - على أيوب - عليه السلام - فحسده، وسأل الله تعالى أن يسلطه على جسده وماله وولده ففعل - عز وجل - ابتلاء له، والقصة مشهورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الآثار أن الماس له شيطان يقال له: مسوط، وأنكر الزمخشري ذلك فقال: لا يجوز أن يسلط الله تعالى الشيطان على أنبياء - عليهم السلام - ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا، إلا وقد نكبه، وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب، وجعل إسناد المس إليه هنا مجازا، فقال: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله تعالى من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى - عليه السلام - الأدب في ذلك، حيث لم ينسبه إلى الله سبحانه في دعائه مع أنه - جل وعلا - فاعله، ولا يقدر عليه إلا هو، وهذه الوسوسة قيل: وسوسته إليه - عليه السلام - أن يسأل الله تعالى البلاء ليمتحن ويجرب صبره على ما يصيبه، كما قال شرف الدين عمر ابن الفارض:


                                                                                                                                                                                                                                      وبما شئت في هواك اختبرني فاختياري ما كان فيه رضاكا



                                                                                                                                                                                                                                      وسؤاله البلاء دون العافية ذنب بالنسبة لمقامه عليه لا حقيقة، والمقصود من ندائه بذلك الاعتراف بالذنب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن رجلا استغاثه على ظالم فوسوس إليه الشيطان بترك إغاثته، فلم يغثه، فمسه الله تعالى بسبب ذلك بما مسه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه، ولم يغزه وسوسة من الشيطان، فعاتبه الله تعالى بالبلاء، وقيل: وسوس إليه، فأعجب بكثرة ماله وولده، فابتلاه الله تعالى لذلك، وكل هذه الأقوال عندي متضمنة ما لا يليق بمنصب الأنبياء عليهم السلام. وذهب جمع إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض، والألم، أو المرض، وذهاب الأهل، والمال، بل أمران عرضا له، وهو مريض فاقد الأهل والمال، فقيل: هما ما كانا له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة، والإغراء على الجزع، كان الشيطان يوسوس إليه بذلك وهو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو فيه من البلاء، فنادى ربه يستصرفه عنه، ويستعينه عليه: أني مسني الشيطان بنصب وعذاب وقيل: كانا من وسوسة الشيطان إلى غيره، فقيل: إن الشيطان تعرض لامرأته بصورة طبيب فقالت له: إن ها هنا مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ فقال: نعم بشرط أن يقول: إذا شفيته: أنت شفيتني، فمالت لذلك، وعرضت كلامه لأيوب - عليه السلام - فعرف أنه الشيطان، وكان عليه ذلك أشد مما هو فيه، " فنادى ربه أني مسني "إلخ، وقيل: إن الشيطان طلب منها أن تذبح لغير الله تعالى إذا عالجه، وبرأ فمالت لذلك، فعظم عليه - عليه السلام - الأمر، فنادى، وقيل: إنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل له: ألقى إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فتألم من ذلك جدا، فقال ما قال، وفي رواية: مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إلا بذنب أصابه، وهذا نوع من وسوسة الشيطان، فعظم عليه ذلك، فقال ما قال، والإسناد على جميع ما ذكر باعتبار الوسوسة، وقيل: غير ذلك، والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية