الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1798 1804 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد من علمائهم ; أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب ، فاستأذن ثلاثا ثم رجع ، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال : ما لك لم تدخل ؟ فقال أبو موسى : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الاستئذان [ ص: 158 ] ثلاث ، فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع " . فقال عمر : ومن يعلم هذا ؟ لئن لم تأتني بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا ، فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد ، يقال له مجلس الأنصار ، فقال : إني أخبرت عمر بن الخطاب ; أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع " . فقال : لئن لم تأتني بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا ، فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي ، فقالوا لأبي سعيد الخدري : قم معه ، وكان أبو سعيد أصغرهم ، فقام معه ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فقال عمر بن الخطاب لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        40615 - قال أبو عمر : قد تقدم إسناد هذا الحديث متصلا مسندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        40616 - وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة ; منهم أبي بن كعب ، وأبو سعيد الخدري .

                                                                                                                        40617 - ومن أسانيد هذا الحديث ، ما حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثني علي بن محمد ، قال : حدثني أحمد بن داود ، قال : حدثني سحنون [ ص: 159 ] بن سعيد ، قال : حدثني عبد الله بن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، أن بسر بن سعيد ، حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : كنا في مجلس أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى مغضبا ، حتى وقف ، فقال : أنشدكم الله ، هل سمع أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع " قال أبي : وما ذاك ؟ قال : استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، ثم جئت اليوم ، فدخلت عليه ، فأخبرته أني جئته أمس ، فسلمت ثلاثا ، ثم انصرفت ، فقال : قد سمعناك ، ونحن يومئذ على شغل ، فلو استأذنت حتى يؤذن لك ؟ قال : استأذنت كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك ، أو لتأتيني بمن شهد لك على هذا ، فقال أبي : والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، الذي بجنبك ، قم يا أبا سعيد ، فقمت ، حتى أتيت عمر ، فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

                                                                                                                        40618 - قال ابن وهب : وقال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع .

                                                                                                                        40619 - قال : وقال مالك الاستئناس فيما نرى - والله أعلم - الاستئذان .

                                                                                                                        40620 - قال أبو عمر : يريد قول الله - عز وجل - : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] ، وقد قرئت : [ ص: 160 ] حتى تستأذنوا وتسلموا .

                                                                                                                        40621 - روي ذلك عن ابن عباس .

                                                                                                                        40622 - وقد روي عنه ; أنه كان يقرؤها ، كما كان أبي يقرؤها ، وابن مسعود ، يقرآنها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا .

                                                                                                                        40623 - قال عكرمة : تعلمها ابن عباس من أبي ، وكان يقرؤها كذلك .

                                                                                                                        40624 - وقال هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هي في مصحف عبد الله كذلك .

                                                                                                                        40625 - وروى شعبة ، وهشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أوهم الكاتب ، إنما هي : حتى تستأذنوا وتسلموا .

                                                                                                                        40626 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني بكر ، قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني أبو داود ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، أنه أتى عمر ، فاستأذن ثلاثا ، قال : يستأذن أبو موسى ، يستأذن الأشعري ، يستأذن عبد الله بن قيس ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فبعث إليه عمر : فقال : ما ردك ؟ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يستأذن أحدكم ثلاثا ، فإن أذن له ، وإلا فليرجع " فقال : ائتني ببينة على هذا ، فقال : هذا أبي ، فانطلقنا إلى عمر : فقال : نعم يا عمر ، لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمر : لا أكون عذابا [ ص: 161 ] على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        40627 - قال أبو عمر : قد ذكرنا حديث الاستئناس ، هذا من طرق كثيرة في " التمهيد " وفي ألفاظه اختلاف متباين ، لكن المعنى المبتغى فيها ، لم يختلفوا فيه ; وهو أن الاستئذان ثلاث ، فإن أذن له ، وإلا فليرجع ، معناه - إن شاء الله - والله أعلم - لا أنه واجب عليه أن يرجع وإنما فائدة الحديث أنه ليس عليه أن يستأذن أكثر من ذلك .

                                                                                                                        40628 - وقد قال بعض أهل العلم ; إن الاستئذان ثلاث ، مأخوذ من قول الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور : 58 ] .

                                                                                                                        40629 - قال : يريد ثلاث دفعات .

                                                                                                                        40630 - قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان .

                                                                                                                        40631 - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس أجمعين .

                                                                                                                        40632 - قال أبو عمر : ما ذكره هذا القائل ، وإن كان له وجه ، فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها .

                                                                                                                        40633 - والذي عليه جمهور أهل العلم في قوله عز وجل ، وفي هذه الآية : [ ص: 162 ] " ثلاث مرات " أي في ثلاث أوقات .

                                                                                                                        40634 - ويدل على صحة هذا القول مساق الآية وتمامها فيها : من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم [ النور : 58 ] .

                                                                                                                        40635 - وللكلام في هذه الآية ، في معنى العورات موضع غير هذا .

                                                                                                                        40636 - وقد زعم قوم أن في قصة أبي موسى الأشعري مع عمر ، في الاستئذان دليل على أن عمر كان لا يقبل خبر الواحد العدل ، حتى يقع إليه ما ينضم إليه العلم الظاهر به ، كالشاهدين .

                                                                                                                        40637 - قال أبو عمر : ليس كما زعموا ; لأنه معروف عن عمر ، من وجوه متواترة قبوله لخبر الواحد العدل ، ومحال أن يقبل خبر الواحد العدل وهو يدين برده ، ألا ترى أنه قبل خبر الضحاك بن سفيان وحده في ما جهله من ميراث المرأة من دية زوجها ، وكان يذهب إلى أنه لا يرث الدية إلا من يقوم بها من العاقلة ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .

                                                                                                                        40638 - وقبل أيضا خبر حمل بن مالك بن النابغة الهذلي الأعرابي ، أن في [ ص: 163 ] الجنين غرة ; عبدا أو وليدة ، وقد كان أشكل عليه القضاء في الجنين ، حتى أخبره حمل بن مالك بذلك ، وكانت قصته نزلت به في امرأتيه .

                                                                                                                        40639 - وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية ، وفي الطاعون .

                                                                                                                        40640 - ولا يشك ذو لب أن أبا موسى عند عمر أشهر وأولى بالعدالة ، من الأعرابي الهذلي المذكور .

                                                                                                                        40641 - وقد صح عن عمر في حديث السقيفة ، أنه قال : إني قائل مقالة ، قد قدر لي أن أقولها ; فمن وعاها وحفظها ، فليحدث بها ، فكيف يأمر من سمع قوله أن يحدث به ، وينهى عن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " نضر الله عبدا سمع مقالتي ، فوعاها ، ثم أداها إلى من لم يسمعها " ، فندب السامع لحديثه أن يؤديه كما سمعه ، ودعا له إذا فعل ذلك ، ولا وجه للتبليغ إلا القبول ، وإلا لم يكن للتبليغ فائدة ، وحسبك به فضيلة ، ولا يظن بعمر أنه لا يقبل خبر الواحد العدل ، إلا من قل نظره وفهمه ، وغلب عليه الجهل .

                                                                                                                        40642 - وأما قوله في حديث ربيعة لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكنني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا مما حمله عليه اجتهاده .

                                                                                                                        40643 - وقد أوضحنا هذا المعنى ، وسائر ما في الحديث من المعاني في " التمهيد " ، والحمد لله .

                                                                                                                        [ ص: 164 ] 40644 - وإذا كان عمر مع لزومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وطول مجالسته ، وقيامه ، وقعوده معه يخفى عليه مثل هذا من حديث الاستئذان ، ودية الجنين ، وميراث المرأة من دية زوجها ، وغير ذلك مما قد ذكرناه في غير موضع من كتابنا ، فكيف يجوز لأحد أن يقول في شيء من السنن ، فهذا لا يخفى على إمام ومعلم ، هذا لا يقوله إلا من لا تحصيل له ، ولا يشتغل بقوله ; لأن العلم لا يحيط بجميعه أحد ، ولا عيب على ما فاته الأقل ، إذا كان عنده الأكثر ، وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية