الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( باب القراض )

                                                                                                                            ش : قال في المقدمات : القراض مأخوذ من القرض ، وهو ما يفعله الرجل ليجازى عليه من خير أو شر فلما كان صاحب المال ، والعامل فيه متفقين جميعا يقصد كل واحد منهما إلى منفعة صاحبه لينفعه هو اشتق له من معناه اسما ، وهو القراض والمقارضة ; لأنه مفاعلة من اثنين هذا اسمه عند أهل الحجاز وأهل العراق لا يقولون قراضا ألبتة ، ولا عندهم كتاب القراض ، وإنما يقولون : مضاربة وكتاب المضاربة ، أخذوا ذلك من قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض } { وآخرون يضربون في الأرض } ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع إلى الرجل ماله على الخروج به إلى الشام وغيرها فيبتاع المتاع على هذا الشرط ، وفي قول الصحابة لعمر رضي الله عنه في قصة عبد الله وعبيد الله : لو جعلته قراضا دليل على صحة هذه التسمية في اللغة ; لأنهم هم أهل اللسان وأرباب البيان .

                                                                                                                            ، وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة فالحجة بقول هؤلاء أقوى وأولى ا هـ وفي الذخيرة : له اسمان : القراض والمضاربة أما لفظ القراض فقال صاحب العين : أقرضت الرجل إذا أعطيته ليعطيك فالمقارض يعطى الربح كما يعطى المقترض مثل المأخوذ ، قال غيره : هو من المقارضة ، وهي المساواة ، ومنه : تقارض الشاعران إذا تساويا في الإنشاد ; لأنهما يستويان في الانتفاع بالربح ، وقيل : من القرض الذي هو القطع ; لأنك قطعت له من مالك قطعة ، وهو قطع له مما تحت يده أو لاشتراكهما في العقد على سبيل المجاز من باب لك جزء من الربح الحاصل بسعيه وسمي مقارضا مع أن المفاعل لا يكون إلا من المفاعلة التي لا تكون إلا من اثنين إما ; لأن كلا منهما يساوي صاحبه في الربح أو يقطع له مما تحت يده أو لاشتراكهما في العقد على سبيل المجاز من باب التعبير بالمتعلق عن المتعلق أو هو من الصيغ التي لا تقتضي المشاركة نحو سافر ، وعافاه الله ، وطارقت النعل إذا جعلته طاقا على طاق .

                                                                                                                            وأما المضاربة : فهو إما أن كليهما يضرب في الربح بنصيب وإما من الضرب في الأرض الذي هو السفر قال ابن عطية في تفسيره : فرق بين ضرب في الأرض وضرب الأرض أن الأول للتجارة ، والثاني للحج والغزو والقربات كأنه للتجارة منغمس في الأرض ومتاعها ، فقيل : ضرب فيها ، والمتقرب إلى الله - تعالى - بريء من الدنيا فلم يجعل فيها وسمي مفاعلة على أحد التأويلات المتقدمة في المقارض ، والمقارض بالكسر رب المال ، وبالفتح العامل ، والمضارب بالكسر العامل عكس الأول ; لأنه هو الذي يضرب بالمال ، قال بعض اللغويين : ليس لرب المال اسم من المضاربة بخلاف القراض ا هـ وفي اصطلاح الفقهاء ما قال المؤلف توكيل إلخ وعدل عن أن تكون إجارة كما قال ابن الحاجب لسلامة ما قال المؤلف من بعض ما ورد عليه .

                                                                                                                            قال في التوضيح : أورد على حده أنه غير مانع وغير جامع أما عدم منعه فلأنه لا ينعقد بلفظ الإجارة فلو قال : أجرتك على هذا التجر في هذا المال بجزء من ربحه صدق عليه الحد ، وليس بقراض ، وأيضا فلو أجره على التجر إلى أجل أو قارضه بعروض لم يكن قراضا صحيحا ، وأما عدم جمعه فلأنه يجوز القراض على أن يكون الربح لغيرهما أو لأحدهما وأجيب عن عدم منعه بأن حقيقة القراض ما ذكره ، وكونه لا ينعقد بلفظ الإجارة شرط في الصيغة وكذا كونه لا يكون إلى أجل شرط في العمل وكذا كونه لا يكون بعرض شرط في المال والشرط [ ص: 356 ] لا يتوقف تصور الماهية عليه ، وأجيب عن عدم جمعه بأن الصورة المقترض بها إنما هي من باب التبرعات ، وإطلاق القراض عليها مجاز انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة : القراض تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ إجارة فيدخل بعض الفاسد كالقراض بالدين الوديعة ويخرج عنه قولها قال مالك : من أعطى رجلا مالا يعمل به على أن الربح للعامل ، ولا ضمان على العامل لا بأس به عياض .

                                                                                                                            قال سحنون : هو ضامن كالسلف فضل هذا إن لم يشترط أن لا ضمان عليه محمد إن قال : خذه قراضا فهو ضامن الباجي يجوز شرط كل الربح لأحدهما في مشهور مذهب مالك ، وإن أريد إدخاله على أنه قراض قيل : عقد على التجر بمال العوض ليس من غير ربحه انتهى .

                                                                                                                            ويخرج من الأخير ما إذا شرط الربح لرب المال فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            وحكمه قال في التوضيح : لا خلاف بين المسلمين في جوازه ، وهو مستثنى من الإجارة المجهولة ، ومن السلف بمنفعة ، وهو معنى قول بعض شيوخنا : إنه سنة أي أباحته السنة ، والرخصة فيه جائزة بالسنة لا بمعنى السنة التي يحض على أمثالها ; ولهذا قال ابن عبد الحكم : لا أقول هي سنة انتهى .

                                                                                                                            قال ابن عرفة : وقول عياض : هي مستثناة من السلف بمنفعة يرد بأنه ليس بمضمون وكل سلف مضمون انتهى .

                                                                                                                            وحكمة مشروعيته : قال في المقدمات : والقراض مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام ; لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها ، وليس كل أحد يقدر على ذلك بنفسه فاضطر فيه إلى استنابة غيره ، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة لما جرت عادة الناس فيه في ذلك على القراض فرخص فيه لهذه الضرورة واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص فيه في المساقاة وبيع العرية والشركة في الطعام والتولية فيه انتهى .

                                                                                                                            ( فائدة : ) قال في المقدمات : أول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مولى الحرقة مع عثمان رضي الله عنه ، وذلك أن عمر رضي الله عنه بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه فأقيم يعقوب فيمن أقيم فجاء إلى عثمان فأخبره فأعطاه مزودتين قراضا على النصف ، وقال : إن جاءك من يعرض لك فقل له : المال لعثمان فقال ذلك فلم يقم فجاء بمزودين مزود رأس المال ومزود ربح ، ويقال : إن أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري ، وهو أمير البصرة فرحب بهما ، وسهل ، ثم قال : لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ، ثم قال : بل هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ، ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون لكما الربح فقالا : وددنا ، ففعل وكتب إلى عمر رضي الله عنه أن يأخذ منهما المال ، فلما قدما باعا فربحا فلما دفعا ذلك إلى أمير المؤمنين قال : أكل الجيش أسلفه مثل الذي أسلفكما ؟ قالا : لا ، فقال عمر : ابنا عمر أمير المؤمنين ، فأسلفكما أديا المال وربحه ، فأما عبد الله فسكت ، وأما عبيد الله فقال : ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو هلك المال أو نقص لضمناه ، فقال عمر : أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله ، فقال رجل من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين ، لو جعلته قراضا فقال عمر : قد جعلته قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف الربح انتهى .

                                                                                                                            قال في الذخيرة : ويقال : إن الرجل عبد الرحمن بن عوف ، ثم قال سؤال أبو موسى حاكم عدل ، وقد تصرف بوجه المصلحة ; لأن المال يصير مضمونا في الذمة فهو أولى من بعثه على وجه الأمانة مضافا إلى الحرام من ينبغي إكرامه فهو تصرف جامع للمصالح فيتعين تنفيذه وعدم الاعتراض عليه جوابه أن عدم التعرض إنما هو بين النظراء من الأمراء أما الخليفة فله [ ص: 357 ] النظر في أمر نوابه ، وإن كان سدادا أو نقول : كان في هذا التصرف تهمة تتعلق بعمر بسبب أنه إكرام لبنيه فأراد إبطالها والذب عن عرض الإمامة بحسب الإمكان انتهى .

                                                                                                                            وقوله : قد تصرف فيه بوجه المصلحة ; لأن المال يصير مضمونا في الذمة فيه نظر ; لأنه لو كان الدفع لهذا القصد أو له ولغيره كان هذا هو السفاتج ، والمشهور من مذهب مالك أنه غير جائز ; ولهذا قال الباجي في شرح هذا الأثر من الموطإ : لم يرد رضي الله عنه إحراز المال في ذمتهما ، وإنما أراد منفعتهما بالسلف ، ومن مقتضاه : ضمانهما المال ، وإنما يجوز السلف لمجرد منفعة التسلف ، ثم قال : وسواء كان المسلف صاحب المال أو غيره ضمن له النظر عليه من إمام أو قاض أو وصي أو أب فلا يجوز للإمام أن يسلف شيئا من مال المسلمين ليحرزه في ذمة المتسلف ، وكذلك القاضي والوصي ، ثم قال : وفعل أبي موسى هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون فعل هذا لمجرد منفعة عبد الله وعبيد الله وجاز له ذلك ، وإن لم يكن الإمام فوض له ; لأن المال كان بيده بمنزلة الوديعة لجماعة المسلمين فاستسلفه بإسلافهما إياه فلو تلف المال ، ولم يكن عند عبد الله وعبيد الله وفاء لضمنه أبو موسى ، والوجه الثاني : أن يكون لأبي موسى النظر في المال بالتثمير والإصلاح ، وإذا أسلفه كان لعمر الذي هو الإمام تعقب فعله ، فتعقبه ورده إلى القراض انتهى .

                                                                                                                            ( نكتة : ) قال في المنتقى أيضا : وقول عمر : أكل الجيش أسلفه إلخ ؟ تعقب منه لفعل أبي موسى ، ونظر في تصحيح أفعاله ، وتبيين لموضع المحظور منه ; لأنه لا يخفى على عمر أنه لم يسلف كل أحد من الجيش ، وإنما أراد أن يبين لابنيه موضع المحاباة لموضعهما من أمير المؤمنين ، وهذا مما كان يتورع عنه أن يخص أحد من أهل بيته أو ممن ينتمي إليه بمنفعة من مال المسلمين لمكانه منه وقوله : أديا المال وربحه نقض منه لفعل أبي موسى وتغيير لسلفه قال ابن دينار : وإنما كره تفضيل أبي موسى لولديه ، ولو لم يكن يلزمهما ، وهذا على قولنا : إن أبا موسى استسلف المال وأسلفهما إياه لمجرد منفعتهما ، وإن المال كان بيده على وجه الوديعة ، وأما إذا قلنا : إنه بيده على وجه التثمير والإصلاح فإن لعمر تعقبه ، والتكلم فيه ، والنظر في ذلك لهما وللمسلمين بوجه الصواب وقوله : لولديه بعد اجتماع عبيد الله وعبد الله أديا المال وربحه إعراض عن حجة عبيد الله ; لأن المبضع معه يضمن البضاعة إذا اشترى بها لنفسه ، وإن دخلها نقص جبره ، ومع ذلك ، فإن ربحها لرب المال انتهى باختصار ( تنبيه : ) قال في الذخيرة سؤال : كيف يمكن جعله قراضا بعدما كان قرضا ، وإلزام ذلك في القرض خلاف الإجماع ، وأكل للمال بالباطل لأن الربح ملك للمقترض إجماعا فأخذه غصب جوابه قال الطرطوشي في سراج الملوك جعل عمر رضي الله عنه انتفاعهم بجاه العمل للمسلمين له نصف الربح كأن المسلمين ساعدوهما في ذلك ، وهو مستنده في تشطير عماله في أموالهم فهو كالقراض انتهى .

                                                                                                                            وإيراد السؤال على هذا الوجه إذا تؤمل لا يخلو من نظر ; لأنه قد قرر أن لعمر رضي الله عنه نقض فعل أبي موسى فله أخذ جميع الربح ، وينبغي أن يقال : كيف يمكن أن يكون قراضا ، وهما إنما دخلا على أنه قرض ، وغاية ما هناك أنه كان لعمر رد فعل أبي موسى وإمضاؤه فإما أن يرد الجميع أو يمضي الأمر على ما هو عليه فالجواب عنه ما قال الباجي ونصه : والقراض الذي أشار إليه الرجل من جلساء عمر أحد نوعي الشركة يكون فيها المال من أحد الشريكين ، والعمل من الثاني ، والنوع الثاني من الشركة : أن يتساويا في المال والعمل انتهى .

                                                                                                                            والله الموفق

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية