الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية؛ وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه - سبحانه -؛ مع شدتهم في أنفسهم؛ بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة؛ وهي رتبة التأنيث؛ اللازم منه الضعف؛ فقال: كذبت ؛ ولما كانت نيتهم التكذيب؛ لا إلى آخر؛ عدوا مستغرقين للزمان؛ فنزع الجار وقيل: قبلهم ؛ أي: مثل تكذيبهم؛ ولما كان لأول المكذبين من الكثرة؛ والقوة؛ والاجتماع على طول الأزمان؛ ما لم يكن لمن بعدهم؛ كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق؛ فقال: قوم نوح ؛ واستمروا في عزتهم؛ وشقاقهم؛ إلى أن رأوا الماء قد أخذهم؛ ولم يسمحوا بالإذعان؛ ولا بالتضرع؛ إلى نوح - عليه السلام - في أن يركبوا معه؛ أو يدعو لهم فينجوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لقوم هود - عليه السلام - بعدهم من الضخامة؛ والعز؛ ما ليس لغيرهم؛ مع قوة الأبدان؛ وعلو الهمم؛ واتساع الملك؛ حتى بنوا جنة في الأرض؛ أتبعهم بهم؛ ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح؛ التي هي سبب السحاب؛ الحامل للماء؛ فقال: وعاد ؛ مسميا لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك؛ واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح؛ ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض؛ وهجم [ ص: 341 ] عليهم أوائلها وهم يرون هودا - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين - رضي الله عنهم - في عافية منها؛ ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم؛ ولا يذعنون لما دعاهم إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لهم من القوة؛ والملك في جميع الأرض؛ وبناء إرم ذات العماد؛ ما يتضاءل معه ملك كل ملك؛ أتبعهم ملكا ضخما؛ قهر غيره بعز سلطانه؛ وكثرة أعوانه؛ حتى ادعى الإلهية في زمانه؛ وتكبر بسعة ملكه؛ والأنهار الجارية من تحته؛ مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطنا؛ وإن كان بالماء ظاهرا؛ وذلك أن موسى - عليه السلام - لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقا؛ وأيبست تلك الطرق؛ ولما خلص بنو إسرائيل؛ أمرها الله (تعالى) فسكنت؛ فانطبق البحر على فرعون وآله؛ فقال (تعالى): وفرعون ؛ ذكره باسمه نصا على حقيقة أمره؛ وتصريحا بكفره؛ إبطالا لما أظهره الأخابث من شره؛ طعنا في الدين؛ وتشكيكا لضعفاء المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما نص على كفره؛ وصفه بما يدل - مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر - على كفر قومه؛ فقال: ذو الأوتاد ؛ أي: الأسباب الموجبة لثبات الملك؛ وتقويته؛ من علو السلطان بكثرة الأعوان؛ والتفرد [ ص: 342 ] بالأوامر؛ وسعة العقل؛ ودقة المكر؛ وكثرة الحيل؛ بالسحر وغيره؛ وجودة التدبير بالعدل؛ فيما يزعم؛ وصولة القهر؛ قال أبو حيان : وأصله من البيت المطنب بأوتاده؛ قال الأفوه الأودي:


                                                                                                                                                                                                                                      والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد



                                                                                                                                                                                                                                      واستمروا في عزة وشقاق؛ وهم يضربون تارة بالطوفان؛ وتارة بالجراد؛ وتارة بالقمل؛ وأخرى بالضفادع؛ وبغير ذلك؛ إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية؛ ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم؛ إلى أن غرقوا على كفرهم؛ عن بكرة أبيهم؛ كما صرحت به هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية