الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن فعل ذلك كله ناسيا لم يبطل صومه ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أكل ناسيا أو شرب ناسيا فلا يفطر ، فإنما هو رزق رزقه الله } فنص على الأكل والشرب ، وقسنا عليه كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره ، وإن فعل ذلك وهو جاهل بتحريمه لم يبطل صومه ، لأنه يجهل تحريمه فهو كالناسي ، وإن فعل ذلك به بغير اختياره بأن أوجر الطعام في حلقه مكرها لم يبطل صومه ، وإن شد امرأته ووطئها وهي مكرهة لم يبطل صومها ، وإن استدخلت المرأة ذكر الرجل وهو نائم لا يبطل صومه ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه { ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه } فدل على أن كل ما حصل بغير اختياره لم يجب به القضاء ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف أكل الناسي إلى الله تعالى ، وأسقط به القضاء ، فدل على أن كل ما حصل بغير فعله لا يوجب القضاء وإن أكره حتى أكل بنفسه ، أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء فوطئها ، ففيه قولان ( أحدهما ) يبطل الصوم ; لأنه فعل ما ينافي الصوم لدفع الضرر ، وهو ذاكر للصوم فبطل صومه ، كما لو أكل لخوف المرض أو شرب لدفع العطش .

                                      ( والثاني ) لا يبطل ; لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فأشبه إذا أوجر في حلقه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة { من ذرعه القيء } سبق بيانه في مسألة القيء ، وحديثه الأول { من أكل ناسيا } إلى آخره رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وغيرهم بلفظه الذي هنا ، قال الترمذي : وهو حديث حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم بمعناه لفظ البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا نسي فأكل أو شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه } وفي رواية له { من أكل [ ص: 352 ] ناسيا وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه } وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة } رواه الدارقطني بإسناد صحيح أو حسن ، وقول المصنف : وإن شد امرأته ، لو قال : امرأة ، لكان أحسن وأعم ، ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) إذا أكل أو شرب أو تقايأ أو استعط أو جامع أو فعل غير ذلك من منافيات الصوم ناسيا لم يفطر عندنا ، سواء قل ذلك أم كثر ، هذا هو المذهب والمنصوص ، وبه قطع المصنف والجمهور من العراقيين وغيرهم ، وذكر الخراسانيون في أكل الناسي إذا كثر وجهين ككلام الناسي في الصلاة إذا كثر ، والمذهب أنه لا يفطر هنا وجها واحدا ; لعموم الأحاديث السابقة ، ولأنه قد يستمر به النسيان حتى يأكل كثيرا ، ويندر ذلك في الكلام في الصلاة . وذكر الخراسانيون في جماع الناسي طريقين ( أصحهما ) ما قدمناه عن الجمهور أنه لا يفطر ; للأحاديث .

                                      ( والثاني ) على قولين كجماع المحرم ناسيا . ( أصحهما ) لا يفطر ( والثاني ) يفطر ، قال المتولي وغيره : وهو مخرج من الحج ليس منصوصا ، وبهذا القول قال أحمد ، فعلى المذهب وهو الطريق الأول قال السرخسي : الفرق بين جماع الناسي في الإحرام والصيام أن المحرم له هيئة يتذكر بها ، فإذا نسي كان مقصرا بخلاف الصائم ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الأكل وغيره ناسيا . ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يفطر بشيء من المنافيات ناسيا للصوم ، وبه قال الحسن البصري ومجاهد وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر وغيرهم وقال عطاء والأوزاعي والليث : يجب قضاؤه في الجماع ناسيا دون الأكل ، وقال ربيعة ومالك : يفسد صوم الناسي [ ص: 353 ] في جميع ذلك وعليه القضاء دون الكفارة ، وقال أحمد : يجب بالجماع ناسيا القضاء والكفارة ولا شيء في الأكل ، دليلنا على الجميع الأحاديث السابقة ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلا بتحريمه - فإن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرا - لم يفطر ; لأنه لا يأثم فأشبه الناسي الذي ثبت فيه النص ، وإن كان مخالطا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر ; لأنه مقصر ، وعلى هذا التفصيل ينزل كلام المصنف وغيره ممن أطلق المسألة ، ولو فصل المصنف كما فصل غيره على ما ذكرناه كان أولى .



                                      ( الثالثة ) إذا فعل به غيره المفطر ، بأن أوجر الطعام قهرا أو أسعط الماء وغيره ، أو طعن بغير رضاه بحيث وصلت الطعنة جوفه ، أو ربطت المرأة وجومعت ، أو جومعت نائمة فلا فطر في كل ذلك ; لما ذكره المصنف ، وكذا لو استدخلت ذكره نائما أفطرت هي دونه ، لما ذكره المصنف وسواء في ذلك امرأة وزوجها والأجنبية والأجنبي ، ولا خلاف عندنا في شيء من هذا إلا وجها حكاه الحناطي والرافعي فيما أوجر أنه يفطر ، وهذا شاذ مردود ، ولو كان مغمى عليه وقد نوى من الليل وأفاق في بعض النهار وقلنا : يصح صومه فأوجره غيره شيئا في حال إغمائه لغير المعالجة لم يبطل صومه إلا على وجه الحناطي ، وإن أوجره معالجة وإصلاحا له فهل يفطر ؟ فيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين ( أصحهما ) لا يفطر كغير المعالجة ; لأنه لا صنع له .

                                      ( والثاني ) يفطر ; لأن فعل المعالج لمصلحته فصار كفعله ، قالوا : ونظير المسألة : إذا عولج المحرم المغمى عليه بدواء فيه طيب هل تجب الفدية ؟ فيه خلاف سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) لو طعنه غيره طعنة وصلت جوفه بغير أمره لكن أمكنه دفعه فلم يدفعه ففي فطره وجهان حكاهما الدارمي أقيسهما لا يفطر ، إذ لا فعل له ، والله أعلم .



                                      ( الرابعة ) لو أكره الصائم على أن يأكل بنفسه أو يشرب فأكل أو شرب ، أو أكرهت على التمكين من الوطء فمكنت ، ففي بطلان الصوم به قولان مشهوران قل من بين الأصح [ ص: 354 ] منهما ( والأصح ) لا يبطل ، ممن صححه المصنف في التنبيه والغزالي في الوجيز والعبدري في الكفاية والرافعي في ( الشرح ) وآخرون وهو الصواب ولا تغتر بتصحيح الرافعي في المحرر البطلان ، وقد نبهت عليه في مختصر المحرر . واحتجوا لعدم البطلان بأنه بالإكراه سقط أثر فعله ، ولهذا لا يأثم بالأكل ; لأنه صار مأمورا بالأكل لا منهيا عنه فهو كالناسي ، بل أولى منه بأن لا يفطر ; لأنه مخاطب بالأكل لدفع ضرر الإكراه عن نفسه ، بخلاف الناسي فإنه ليس بمخاطب بأمر ولا نهي . وأما قول القائل الآخر : إنه أكل لدفع الضرر عنه فكان كالآكل لدفع الجوع والعطش ، ففرقوا بينهما بأن الإكراه في اختياره وأما الجوع والعطش فلا يقدحان في اختياره ، بل يزيدانه ، قال أصحابنا : فإن قلنا : يفطر المكره فلا كفارة عليه بلا خلاف سواء أكره على أكل أو أكرهت على التمكين من الوطء ، وأما إذا أكره رجل على الوطء فينبغي على الخلاف المشهور أنه لا يتصور إكراهه على الوطء أم لا ؟ قال أصحابنا : إن قلنا : يتصور إكراهه فهو كالمكره ، ففي إفطاره القولان ، فإن قلنا : يفطر فلا كفارة قولا واحدا ; لأنها تجب على من جامع جماعا يأثم به ، وهذا لم يأثم بلا خلاف ، وإن قلنا : لا يتصور إكراهه أفطر قولا واحدا ووجبت الكفارة ; لأنه غير مكره ، والله أعلم .

                                      قال صاحب الحاوي : لو شدت يدا الرجل وأدخل ذكره في الفرج بغير اختياره ولا قصد منه فإن لم ينزل فصومه صحيح وإن أنزل فوجهان : ( أحدهما ) لا يبطل صومه ; لأنه لم يبطل بالإيلاج فلم يبطل بما حدث منه وكأنه أنزل من غير مباشرة ; لأن المباشرة سقط أثرها بالإكراه .

                                      ( والثاني ) يبطل ; لأن الإنزال لا يحدث إلا عن قصد واختيار قال : فعلى هذا يلزمه القضاء إن كان في رمضان وفي الكفارة وجهان ، ( أحدهما ) تجب ; لأنا جعلناه مفطرا باختياره ( والثاني ) لا تجب ; للشبهة . هذا كلام صاحب الحاوي ، ( قلت ) هذا الخلاف في فطره شبيه بالخلاف فيمن أكره على كلمة الطلاق فقصد إيقاعه ففي وقوعه خلاف مشهور حكاه المصنف [ ص: 355 ] والأصحاب وجهين : ( أحدهما ) لا يقع ; لأن اللفظ سقط أثره بالإكراه وبقي مجرد نية ، والنية وحدها لا يقع بها طلاق ( وأصحهما ) يقع ; لوجود قصد الطلاق بلفظه ، وينبغي أن يكون الأصح في مسألة الصوم أنه إن حصل بالإنزال تفكر وقصد وتلذذ أفطر وإلا فلا ، والله تعالى أعلم ، ( فرع ) ذكرنا أن الأصح عندنا أن المكره على الأكل وغيره لا يبطل صومه وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : يبطل والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية