الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في تبريد الحمى بالماء

                                                                                                          2073 حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحمى فور من النار فأبردوها بالماء قال أبو عيسى وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر وابن عمر وامرأة الزبير وعائشة وابن عباس

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أخبرنا أبو الأحوص ) اسمه سلام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي ، ( عن سعيد بن مسروق ) هو والد سفيان الثوري ( هو عباية ) بفتح أوله والموحدة الخفيفة وبعد الألف تحتانية خفيفة ( بن رفاعة ) بكسر راء وخفة فاء وإهمال عين ، ابن رافع بن خديج الأنصاري الزرقي كنيته أبو رفاعة ، المدني ثقة من الثالثة ( عن جده رافع بن خديج ) بفتح معجمة وكسر دال مهملة وبجيم ابن رافع بن عدي الأوسي الأنصاري صحابي جليل ، أول مشاهده أحد ثم الخندق ، روى عنه ابنه عبد الرحمن وابنه رفاعة على خلاف فيه ، وحفيده عباية بن رفاعة وغيرهم ، كذا في التقريب وتهذيب التهذيب .

                                                                                                          قوله : ( الحمى فور من النار ) بفتح الفاء وسكون الواو وبالراء ، وفي رواية : الحمى من فيح جهنم بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة ، وفي أخرى : من فوح بالواو بدل التحتانية .

                                                                                                          [ ص: 202 ] قال الحافظ : كلها بمعنى والمراد سطوع حرها ووهجه ، واختلف في نسبة الحمى إلى جهنم ، فقيل حقيقة واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم ، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك ، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد وعن أبي ريحانة عند الطبراني ، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب : الحمى حظ المؤمن من النار ، وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم ، وأن الله أذن لها بنفسين ، وقيل بل الخبر ورد مورد التشبيه ، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار ، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها ، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الإبراد والأول أولى انتهى .

                                                                                                          قوله : ( فابردوها ) قال الحافظ : المشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة ، وحكي كسرها ، يقال : بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها ، قال شاعر الحماسة :

                                                                                                          إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره
                                                                                                          فمن النار على الأحشاء تتقد



                                                                                                          وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره باردا مثل أسخنه إذا صيره سخنا ، وقد أشار إليها الخطابي ، وقال الجوهري : إنها لغة رديئة انتهى ، ووقع في حديث ابن عمر في رواية فأطفئوها بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر ، من الإطفاء ، ( بالماء ) قال الخطابي ومن تبعه : اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف ، قال الخطابي ; غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه ، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره ، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث ، والجواب : أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر ، فيقال له أولا من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل ، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد ، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه [ ص: 203 ] ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق ، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة ، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها ، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها .

                                                                                                          قلت : يأتي لفظ حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها في هذا الباب ، وقال المازري : لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه ومثل ذلك كثير ، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال ، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، قالوا وعلى تقدير أن يرد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى وهو بعيد ، ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي ، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب .

                                                                                                          وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعا : إذا أصاب أحدكم الحمى فإن الحمى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء فليستنقع في نهر جار فليستقبل جريته الحديث ، وفيه وليغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام ، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس ، فإن لم يبرأ في خمس فسبع ، فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله ، قال ويحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض ، في بعض الأماكن دون بعض ، لبعض الأشخاص دون بعض ، وهذا أوجه ، فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الأكثر ، وقد يكون خاصا كما قال : لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا ، فقوله : شرقوا أو غربوا ليس عاما لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا ; لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن ، وهي قسمان عرضية : وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك ، ومرضية : وهي ثلاثة أنواع وتكون عن مادة ثم منها ما يسخن جميع البدن ، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاث ، وإن [ ص: 204 ] كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها ، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة ، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب ، وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ، ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر ، وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء : لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك ، وقال أبو بكر الرازي : إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بينا ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه ، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا أو كان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤذن له فيه ، وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود ، فقال هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله ، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء ، قال : والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة .

                                                                                                          تنبيه : قال ابن القيم قوله " بالماء " فيه قولان أحدهما أنه كل ماء وهو الصحيح ، والثاني أنه ماء زمزم ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نضر بن عمران الضبعي قال : كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال ابردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء أو قال : بماء زمزم ، راوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء ، ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين ، والصحيح أنه استعماله ، وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه ، مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل ، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ، ولكن يؤخذ هذا من فقه الحديث وإشارته ، وأما المراد به فاستعماله انتهى ، وحديث رافع بن خديج هذا أخرجه أيضا أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر وابن عمر وابن عباس وامرأة الزبير وعائشة ) أما [ ص: 205 ] حديث أسماء فأخرجه الترمذي في هذا الباب ، وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وقد تقدم لفظه ، وأما حديث امرأة الزبير فلينظر من أخرجه ، وأما حديث عائشة فأخرجه الترمذي بعد هذا .




                                                                                                          الخدمات العلمية