الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله (تعالى) حتى يحبه؛ فإذا أحبه صار يفعل به - سبحانه -؛ وظهرت على يديه الخوارق؛ قال - مستأنفا؛ جوابا لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد؛ مؤكدا له؛ لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق؛ لتقيده بالمألوفات -: إنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ التي لا يعجزها شيء؛ سخرنا الجبال ؛ أي: التي هي أقسى من قلوب قومك؛ فإنها أعظم الأراضي صلابة؛ وقوة؛ وعلوا؛ ورفعة؛ بأن جعلناها منقادة ذلولا كالجمل الأنف؛ ثم قيد ذلك بقوله: معه ؛ أي: مصاحبة له؛ فلم يوجد ذلك التسخير [ ص: 351 ] ظاهرا لأحد بعده؛ ولا قبله؛ ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئا فشيئا أعجب؛ لأنها جماد؛ عبر بالفعل المضارع؛ فقال - مصورا لتلك الحال؛ معبرا بضمير الإناث؛ إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين؛ والرخاوة؛ يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر؛ لأن ذلك أقرب إلى التمييز؛ والعلم بتسبيح كل على انفراده -: يسبحن ؛ ولم يقل: "مسبحة"؛ أو: "تسبح"؛ لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد؛ ليشكل الأمر في بعضها؛ وهو يمكن أن يكون استئنافا؛ وأن يكون حالا بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح؛ قالا وحالا؛ انقياد المختار المطيع لله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان في سياق الأوبة؛ وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه؛ مع أنه وقت الفتور؛ والاستراحة من المتاعب؛ قال: بالعشي ؛ أي: تقوية للعامل؛ وتذكيرا للغافل؛ ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن؛ قال: والإشراق ؛ أي: في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال؛ واشتغالهم بالمآكل؛ والملاذ؛ من الأقوال؛ والأفعال؛ تذكيرا لهم؛ وترجيعا عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم - سبحانه -؛ وليس الإشراق طلوع الشمس؛ إنما هو صفاؤها [ ص: 352 ] وضوؤها؛ وشروقها طلوعها؛ وروت أم هانئ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها الضحى؛ وقال لها: "هذه صلاة الإشراق"؛ وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صلاة الضحى في القرآن؛ ولكن لا يغوص عليها إلا غائص؛ ثم قرأ هذه الآية؛ وإليها الإشارة أيضا - والله أعلم - بصلاة الأوابين: واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب يا جبال أوبي معه والطير محشورة كل له أواب ؛ روى مسلم ؛ في صحيحه؛ وعبد بن حميد ؛ في مسنده؛ والدارمي ؛ في جامعه؛ المسمى بالمسند؛ عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال"؛ ولفظ الدارمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم وهم يصلون بعد طلوع الشمس؛ فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" ؛ ولفظ عبد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في مسجد قباء؛ فرآهم يصلون الضحى فقال: "هذه صلاة الأوابين؛ وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال"؛ أي بركت من شدة الحر؛ وإحراقه أخفافها؛ من "الرمض"؛ بالتحريك؛ وهو شدة الشمس على الرمل؛ وغيره؛ و"الرمضاء": الشديدة الحر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية