الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              5270 باب تقرير النعم يوم القيامة، على الكافر والمنافق

                                                                                                                              وأورده النووي، في: (كتاب الزهد).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 103، 104 ج 18، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن أبي هريرة؛ قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا، يوم القيامة ؟ قال: «هل تضارون في رؤية الشمس، في الظهيرة، ليست في سحابة ؟ ». قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر، ليلة البدر، ليس في سحابة ؟ ». قالوا: لا. قال: «فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم، إلا كما تضارون: في رؤية أحدهما».

                                                                                                                              [ ص: 85 ] قال: «فيلقى العبد، فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل، وأذرك: ترأس وتربع ؟ فيقول: بلى».

                                                                                                                              قال: «فيقول: أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني. ثم يلقى الثاني، فيقول: أي: فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل، وأذرك: ترأس، وتربع ؟ فيقول: بلى. أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني.

                                                                                                                              ثم يلقى الثالث، فيقول له: مثل ذلك. فيقول: يا رب! آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك. وصليت، وصمت، وتصدقت. ويثني بخير، ما استطاع. فيقول: هاهنا، إذا.

                                                                                                                              قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه: بعمله. وذلك، ليعذر من نفسه. وذلك المنافق. وذلك الذي يسخط الله عليه»).


                                                                                                                              [ ص: 86 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 86 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة، رضي الله عنه) ؛ قال: قالوا: يا رسول الله ! هل نرى ربنا، يوم القيامة ؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس، في الظهيرة).

                                                                                                                              وفي رواية أخرى في كتاب الإيمان: «تضامون»: وروي «تضارون».

                                                                                                                              بتشديد الراء، وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما.

                                                                                                                              ومعنى المشدد هل تضارون غيركم في حالة الرؤية: بزحمة، أو مخالفة في الرؤية وغيرها، لخفائه ؟ كما تفعلون في الظهيرة. (ليست في سحابة).

                                                                                                                              ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته، ضير ؟ «وهو الضرر».

                                                                                                                              وروي أيضا: «تضامون» بتشديد الميم، وتخفيفها ؛ فمن شددها: فتح التاء. ومن خففها: ضم التاء.

                                                                                                                              [ ص: 87 ] ومعنى المشدد: هل تتضامون، وتتلطفون: في التوصل إلى رؤيته ؟ ومعنى المخفف: هل يلحقكم ضيم ؟ وهو المشقة، والتعب.

                                                                                                                              قال عياض: قال فيه «بعض أهل اللغة»: «تضارون، وتضامون» بفتح التاء: وتشديد الراء، والميم.

                                                                                                                              وأشار عياض بهذا: إلى أن غير هذا القائل، يقولهما «بضم التاء» سواء شدد، أو خفف. وكل هذا صحيح، ظاهر المعنى.

                                                                                                                              وفي رواية للبخاري: «لا تضامون - أو لا تضارون -» على الشك. ومعناه: لا يشتبه عليكم وترتابون فيه ؛ فيعارض بعضكم بعضا: في رؤيته. والله أعلم.

                                                                                                                              (قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر - ليلة البدر - ليس في سحابة ؟ » قالوا: لا. قال: «فوالذي نفسي بيده ! لا تضارون في رؤية ربكم عز وجل: إلا كما تضارون: في رؤية أحدهما»).

                                                                                                                              [ ص: 88 ] وفي رواية أخرى: «أن ناسا، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل نرى ربنا، يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هل تضارون في، القمر"، ليلة البدر ؟، قالوا: لا يا رسول الله ! قال: «هل تضارون في الشمس، ليس دونها سحاب ؟ » قالوا: لا. قال: «فإنكم ترونه كذلك».

                                                                                                                              قال النووي معناه: تشبيه الرؤية بالرؤية -، في الوضوح، وزوال: الشك والمشقة، والاختلاف -.

                                                                                                                              قال: وإن مذهب أهل السنة (بأجمعهم): أن رؤية الله تعالى ممكنة، غير مستحيلة عقلا. وأجمعوا أيضا: على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى، دون الكافرين.

                                                                                                                              قال: وزعمت طائفة من أهل البدع (المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة) أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا. وهذا الذي قالوه: خطأ صريح، وجهل قبيح. وقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، فمن بعدهم: من سلف الأمة: على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، للمؤمنين.

                                                                                                                              [ ص: 89 ] ورواها نحو عشرين صحابيا، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              وآيات القرآن فيها: مشهورة.

                                                                                                                              واعتراضات «المبتدعة» عليها: لها أجوبة مشهورة، في كتب المتكلمين من أهل السنة.

                                                                                                                              وكذلك باقي شبههم. وهي مستقصاة في كتب الكلام. وليس بنا ضرورة: إلى ذكرها هنا.

                                                                                                                              وأما رؤية الله (في الدنيا)، فإنها ممكنة. ولكن الجمهور من السلف والخلف - من المتكلمين وغيرهم -، قالوا: إنها لا تقع في الدنيا.

                                                                                                                              وحكى القشيري في رسالته - عن ابن فورك - أنه حكى فيها: قولين لأبي الحسن الأشعري ؛ أحدهما: وقوعها. والثاني: لا تقع.

                                                                                                                              ثم مذهب أهل الحق: أن «الرؤية» قوة، يجعلها الله تعالى في خلقه. ولا يشترط فيها: اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي، ولا غير ذلك.

                                                                                                                              لكن جرت العادة في رؤية بعضها بعضا: بوجود ذلك، على جهة الاتفاق، لا على سبيل الاشتراط.

                                                                                                                              وقد قرر أئمتنا المتكلمون: ذلك بدلائلهم الجلية. ولا يلزم من رؤية [ ص: 90 ] الله تعالى: إثبات جهة، تعالى عن ذلك. بل يراه المؤمنون - لا في جهة - كما يعلمونه لا في جهة -. والله أعلم..

                                                                                                                              هذا آخر كلام النووي. وهو صحيح، موافق لمذهب أهل الحق - من أصحاب الكتاب، والسنة -: في إثبات الرؤية للمؤمنين.

                                                                                                                              وقد حررنا هذه المسألة، في مؤلفات عديدة لنا ؛ مثل «مثير ساكن الغرام، إلى روضات دار السلام». و «يقظة أولي الاعتبار، في ذكر النار وأصحاب النار». و «الانتقاد الرجيح، في شرح الاعتقاد الصحيح. وغير ذلك.

                                                                                                                              وقد تكلم عليها: فحول العلماء ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الحافظ ابن القيم، وغيرهما.

                                                                                                                              وكلام هذين الإمامين: أحسن وأدل على تحقيق الصواب.

                                                                                                                              وأما إنكار الجهة - من النووي، رحمه الله -، فقد قال به، تبعا للمتكلمين. وإلا، فقد أثبت سبحانه وتعالى - لنفسه المقدسة -: الفوق، والعلو. ونطق به حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: في غير حديث.

                                                                                                                              ولا يقدح ثبوت ذلك في تنزيهه سبحانه، كما زعمت المتكلمة. بل «ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير».

                                                                                                                              [ ص: 91 ] وإنما لنا: الأسماء فقط. وحقائقها: له سبحانه. ونحن نؤمن بجميع صفاته العليا، وأسمائه الحسنى. كما وردت. ولا نقول: كيف ؟ ولا نعطلها. ولا نؤولها. ولا نمثلها. بل نمرها على ما جاءت، ونكل علمها إليه سبحانه.

                                                                                                                              وهذه هي الطريقة المثلى، وعليها درج سلف الأمة وأئمتها، ومذهبهم أسلم بالإجماع، عند من يقول: بحجيته.

                                                                                                                              والتأويل (الذي هو مذهب الخلف): لم يدل دليل قط، على إيجابه. فالقصر على مشرب السلف (الموافق لظاهر الكتاب والسنة): أحق بالاتباع.

                                                                                                                              (قال: فيلقى العبد، فيقول: أي فل !) بضم الفاء، وإسكان اللام. معناه: يا فلان ! وهو ترخيم، على خلاف القياس.

                                                                                                                              وقيل: هي لغة بمعنى «فلان». حكاه عياض. (ألم أكرمك، وأسودك) أي: أجعلك سيدا على غيرك.

                                                                                                                              (وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل. وأذرك: ترأس، وتربع ؟).

                                                                                                                              الأول: بفتح التاء، وبعدها همزة مفتوحة.، ومعناه: «رئيس القوم، وكبيرهم».

                                                                                                                              [ ص: 92 ] والثاني: بفتح التاء، والباء الموحدة. هكذا رواه الجمهور.

                                                                                                                              وفي رواية «ابن ماهان»: «ترتع» بالتاء، بعد الراء.

                                                                                                                              ومعناه بالموحدة: تأخذ المرباع، الذي كانت ملوك الجاهلية: تأخذه من الغنيمة. وهو «ربعها». يقال: «ربعتهم»، أي أخذت ربع أموالهم.

                                                                                                                              ومعناه: ألم أجعلك، رئيسا مطاعا ؟

                                                                                                                              وقال عياض - بعد حكايته نحو ما ذكرته -: عندي، أن معناه: تركتك مستريحا، لا تحتاج إلى مشقة وتعب. من قولهم: «أربع على نفسك». أي: ارفق بها.

                                                                                                                              ومعناه «بالمثناة»: تتنعم. وقيل: تأكل. وقيل: تلهو. وقيل: تعيش في سعة.

                                                                                                                              (فيقول: بلى. أي رب! قال: فيقول: أفظننت أنك: ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني) أي: أمنعك الرحمة، كما امتنعت من طاعتي.

                                                                                                                              (ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل ! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل. وأذرك: ترأس وتربع ؟ فيقول: [ ص: 93 ] بلى. يا رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي ؟ قال: فيقول: لا. فيقول: إني أنساك، كما نسيتني.

                                                                                                                              ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب ! آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك. وصليت، وصمت، وتصدقت. ويثني بخير، ما استطاع. قال: فيقول: هاهنا إذا.

                                                                                                                              قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه: بعمله. وذلك ليعذر من نفسه.

                                                                                                                              وذلك المنافق. وذلك الذي يسخط الله عليه).

                                                                                                                              وهذا موافق، لقوله تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون




                                                                                                                              الخدمات العلمية