الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير . قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء . وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة . وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟

ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتابا ، ولذلك دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى ; لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بـ " يا أهل الكتاب ، هزا لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيها على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم . وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، وكلمة : كسدرة ، وتقدم هذا عند قوله : ( مصدقا بكلمة ) والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية : ( لا إله إلا الله ) ، وهذا تفسير المعنى . وعبر بالكلمة عن الكلمات ; لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد [ ص: 483 ] موضع الجمع ، كما قال :


بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب



وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختل جزء منها اختلت الكلمة ; لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها .

وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : " سواء " ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : " كلمة " ، وإن كان نكرة ذا الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من استوى الشيء ، وقال زهير :


أروني خطة لا ضيم فيها     يسوي بيننا فيها السواء



والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال ابن عباس : أي : كلمة مستوية ، أي : مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير ، وبين تفسير لفظة العدل ، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم ، أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى ( فانبذ إليهم على سواء ) على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرا مقاسما لك ، في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء .

( أن لا نعبد إلا الله ) موضع : " أن " ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلا الله . وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء ، والخبر قوله : بيننا وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم ; لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضا ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلا على مذهب الأخفش والكوفيين ، حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، و البصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلا أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف .

والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ، ولا نشرك به شيئا ، أي : لا نجعل له شريكا . و " شيئا " يحتمل أن يكون مفعولا به ، ويحتمل أن يكون مصدرا أي شيئا من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ، ومصدر ، وزمان ، ومكان وهيئة .

[ ص: 484 ] ( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) أي لا نتخذهم أربابا ، فنعتقد فيهم الإلهية ، ونعبدهم على ذلك : كعزير و عيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة .

وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء ، فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ، ونجعل طاعتهم شرعا . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال : " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " ؟ قال : نعم . قال : " هو ذاك " . وفي قوله : بعضنا بعضا ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلها ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعادا : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضا ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ; لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة ، واتخذوا أحبارهم أربابا في الطاعة لهم في تحليل وتحريم ، وفي السجود لهم .

قال الطبري : في قوله : ( أربابا من دون الله ) أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل ، لما لم يحرمه الله ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الروافض انتهى . وفيه بعض اختصار .

( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء ، فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحس . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون ؟ انتهى .

وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره انتهى . وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية