الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر؛ وذكر المخلص منه؛ أتبعه التنبيه على أعظمه؛ وهو ألم الباطن؛ بل أبطن الباطن؛ التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه - رضي الله عنها -؛ بما كاد يزلها؛ فحلف ليضربنها مائة؛ لئلا تعود إلى شيء من ذلك؛ فيزلها عن مقامها؛ كما أزل غيرها؛ فأرشده - سبحانه وتعالى - إلى المخلص من ذلك الحلف؛ على أخف وجه؛ لأنها كانت صابرة محسنة؛ فشكر الله لها ذلك؛ وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده؛ تعظيما لأجرها؛ وتطييبا لذكرها؛ فقال - عاطفا على [ ص: 393 ] اركض -: وخذ بيدك ؛ أي: التي قد صارت في غاية الصحة؛ ضغثا ؛ أي: حزمة صغيرة من حشيش؛ فيها مائة عود؛ كشمراخ النخلة؛ قال الفراء : هو كل ما جمعته من شيء؛ مثل الحزمة الرطبة؛ وقال السمين: وأصل المادة يدل على جميع المختلطات؛ فاضرب به ؛ أي: مطلق ضرب؛ ضربة واحدة؛ ولا تحنث ؛ في يمينك؛ أي تأثم بترك ما حلفت على فعله؛ فهذا تخفيف على كل منهما لصبره؛ ولعل الكفارة لم تكن فيهم؛ وخصنا الله بها؛ مع شرعه فينا؛ ما أرخصه له تشريفا لنا؛ وكل هذا إعلاما بأن الله (تعالى) ابتلاه - صلى الله عليه وسلم - في بدنه؛ وولده؛ وماله؛ ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان؛ طمعا في إيذائهما؛ كما آذى آدم وحواء - عليهما السلام -؛ إلى أن قارب منها بعض ما يريد؛ والمراد بالإعلام به تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه؛ والإغواء والإضلال؛ فقد من عليه بزوجه؛ أعظم وزراء الصدق؛ وكثير من أقاربه الأعمام؛ وبني الأعمام؛ وغيرهم؛ وحفظ له بدنه وماله؛ ليزداد شكره لله (تعالى) ؛ وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء؛ فإنه قادر على التصرف في المعاني؛ كقدرته على التصرف في الذوات؛ وأنه - سبحانه - يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب؛ الذين هم الآن أشد الناس [ ص: 394 ] عليه؛ وغيرهم؛ فيطيعه الكل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد؛ لا تكاد توجد؛ فلا يكاد يصدق بها؛ علل - سبحانه - هذا الإكرام له - صلى الله عليه وسلم - وأكده؛ فقال - على سبيل الاستنتاج مما تقدم؛ ردا على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر؛ وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر -: إنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ وجدناه ؛ أي: في عالم الشهادة؛ طبق ما كان لنا في عالم الغيب؛ ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين؛ ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله (تعالى): واصبر على ما يقولون أتى باسم الفاعل مجردا عن مبالغة؛ فقال: صابرا ؛ ثم استأنف قوله: نعم العبد ؛ ثم علل بقوله - مؤكدا؛ لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك -: إنه أواب ؛ أي: رجاع بكليته إلى الله - سبحانه - على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر؛ قال الرازي؛ في اللوامع: قال ابن عطاء : واقف معنا بحسن الأدب؛ لا يغيره دوام النعمة؛ ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة؛ روى عبد بن حميد ؛ في مسنده؛ عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: وضع رجل يده على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء؛ كما يضاعف لنا [ ص: 395 ] الأجر؛ إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله؛ وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيحويها؛ وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية