الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 231 ] هذا، (ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات) قالوا في قوله تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب أنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عز وجل، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها، وأن يكون خارجا عنها من جنسها، وقال: ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق، لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي، ويقول: إنه يفهم الخطاب، ويتألم كما يتألم الحيوان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: في قوله تعالى: وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة، وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جدا بالنسبة إلى الآخرين، يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض نقل الشعراني أن خلافته - عليه السلام - وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور، وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني، فإن لكل شخص من أهله مقاما معلوما عينه له ربه سبحانه، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة، ولا هو داخل في ربقة التكليف، لأن مرتبته مرتبة مستخلفة، وهو كفر صراح، وفرق العلماء بين الخليفة والملك.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال: حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة ، والزبير، وكعبا، وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري، فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بكتاب الله تعالى، فقال كعب: ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري، فقوله تعالى: فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى كالتفسير لهذه الخلافة، وفيه إشارة إلى ذم الهوى، وفي بعض الآثار: ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى، فهو أعظم الأصنام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق والأعناق فيه إشارة بناء على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله، وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه، وما قيل فيه قال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه - عز وجل - وليس فيه ما يخل بكماله - عليه السلام - وإلا لعوتب عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك، ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلا عن الخواص، قال: بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان - عليه السلام - قالت: يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه، فأعطاها الأمان، فأسرت إليه في أذنه، وقالت: إني أشم من قولك: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي رائحة الحسد، فتغير سليمان، واغبر لونه، ثم قالت له: قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطي أحدا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول: هب لي، وغاب عنك أنك عبد له، لا يصح [ ص: 232 ] أن تملك معه شيئا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له، وكفى بذلك جهلا، ثم قالت له: يا سليمان، وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه؟ فقال: خاتمي، قالت: أف لملك يحويه خاتم، انتهى، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضا لا تخفى على الخواص، والعجب من أنها خفيت على الخواص، وقوله تعالى: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي يشير إلى فضل آدم - عليه السلام - وأنه أكمل المظاهر، واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر، وكل الصفات ترجع إليهما، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه، فقال: الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة، كما يقال: أفضل الجواهر الياقوت، وأفضل الثياب الحلة، وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل، فلا يقال: أيهما أفضل الياقوت أم الحلة؟ ثم قال: والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل، إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى، فمن أخبره الحق تعالى بذلك، فهو الذي حصل له العلم التام، وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع. أرواح تدبر أجسادا نورية، وهم الملأ الأعلى. وأرواح تدبر أجسادا نارية، وهم الجن، وأرواح تدبر أجسادا ترابية، وهم البشر، فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة، وجنس واحد، فمن فاضل من غير علم إلهي، فليس عنده تحقيق، فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقا، قال العقل بتفضيل الملائكة، ولو نظرنا إلى كمال النشأة، وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر، مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه، لأن الأرواح ملائكة، فالكل من الجزء، والجزء من الكل، ولا يقال: أيهما أفضل جزء الإنسان أو كله؟ فافهم، انتهى، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام، ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه، بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم، وشرف، وعظم، وكرم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية