الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 56 ] إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز .

موقع هذه الآية بعد ما ذكر من أحوال المنافقين يشبه موقع آية إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم فالذين يحادون الله ورسوله المتقدم ذكرهم المشركون المعلنون بالمحادة . وأما المحادون المذكورون في هذه الآية فهم المسرون للمحادة المتظاهرون بالموالاة ، وهم المنافقون ، فالجملة استئناف بياني بينت شيئا من الخسران الذي قضى به على حزب الشيطان الذين هم في مقدمته . وبهذا تكتسب هذه الجملة معنى بدل البعض من مضمون جملة ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، لأن الخسران يكون في الدنيا والآخرة ، وخسران الدنيا أنواع أشدها على الناس المذلة والهزيمة ، والمعنى : أن حزب الشيطان في الأذلين المغلوبين .

واستحضارهم بصلة الذين يحادون الله ورسوله إظهار في مقام الإضمار فمقتضى الظاهر أن يقال : إنهم في الأذلين فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إلى الموصولية لإفادة مدلول الصلة أنهم أعداء الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإفادة الموصول تعليل الحكم الوارد بعده وهو كونهم أذلين لأنهم أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم أعداء الله القادر على كل شيء فعدوه لا يكون عزيزا .

ومفاد حرف الظرفية أنهم كائنون في زمرة القوم الموصوفين بأنهم أذلون ، أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلون ، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال : أولئك هم الأذلون .

واسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإشارة مثل أولئك على هدى من ربهم .

وتقدم الكلام على يحادون الله ورسوله في أوائل هذه السورة .

وجملة كتب الله لأغلبن علة لجملة أولئك في الأذلين أي لأن الله [ ص: 57 ] أراد أن يكون رسوله - صلى الله عليه وسلم - غالبا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغلبها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم ، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادة الله لا يغيرها شيء ، والإرادة تجري على وفق العلم ، ومجموع توارد العلم والإرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء . وهو المعبر عنه هنا بـ " كتب الله " لأن الكتابة استعيرت لمعنى : قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإخلال به فإنه يكتب لكي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه .

فثبت لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقواما يحادونه بطريق برهاني .

فجملة ( لأغلبن ) مصوغة صيغة القول ترشيحا لاستعارة كتب إلى معنى قضى وقدر . والمعنى : قضى مدلول هذه الجملة ، أي قضى بالغلبة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله . والمراد : الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد . وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم .

وجملة إن الله قوي عزيز تعليل لجملة ( لأغلبن ) لأن الذي يغالب الغالب مغلوب . قال حسان :

زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب



التالي السابق


الخدمات العلمية