الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 420 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل : فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب قال الله تعالى في الربا : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } . وقد بسط الكلام على هذا في موضعه .

                وقد قال تعالى لما ذكر الخلع والطلاق فقال في الخلع : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } - إلى قوله - { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } وقال تعالى : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } .

                فالطلاق المحرم : كالطلاق في الحيض وفي طهر قد أصابها فيه . حرام بالنص والإجماع وكالطلاق الثلاث عند الجمهور وهو تعد لحدود الله وفاعله ظالم لنفسه كما ذكر الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .

                والظالم لنفسه إذا تاب تاب الله عليه ; لقوله : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } فهو إذا استغفره غفر له ورحمه وحينئذ يكون من المتقين . فيدخل في قوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } . والذين ألزمهم عمر ومن وافقه بالطلاق المحرم كانوا عالمين بالتحريم وقد نهوا عنه فلم ينتهوا فلم يكونوا من المتقين فهم ظالمون لتعديهم الحدود مستحقون للعقوبة . ولذلك قال ابن عباس لبعض المستفتين : إن عمك لم يتق الله فلم يجعل له فرجا ولا مخرجا .

                ولو اتقى الله [ ص: 422 ] لجعل له فرجا ومخرجا . وهذا إنما يقال لمن علم أن ذلك محرم وفعله . فأما من [ لا ] يعلم بالتحريم فإنه لا يستحق العقوبة ولا يكون متعديا فإنه إذا عرف أن ذلك محرم تاب من عوده إليه والتزم ألا يفعله .

                والذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ثلاثتهم واحدة في حياته كانوا يتوبون وكذلك من طلق في الحيض كما طلق ابن عمر فكانوا يتوبون فيصيرون متقين ومن لم يتب فهو الظالم لنفسه كما قال : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } .

                فحصر الظلم فيمن لم يتب فمن تاب فليس بظالم فلا يجعل متعديا لحدود الله بل وجود قوله كعدمه ومن لم يتب فهو محل اجتهاد .

                فعمر عاقبهم بالإلزام ولم يكن هناك تحليل فكانوا لاعتقادهم أن النساء يحرمن عليهم لا يقعون في الطلاق المحرم فانكفوا بذلك عن تعدي حدود الله . فإذا صاروا يوقعون الطلاق المحرم ثم يردون النساء بالتحليل المحرم : صاروا يفعلون المحرم مرتين ويتعدون حدود الله مرتين ; بل ثلاثا ; بل أربعا ; لأن طلاق الأول كان تعديا لحدود الله وذلك نكاح المحلل لها ووطؤه لها قد صار بذلك ملعونا هو [ ص: 423 ] والزوج الأول . فقد تعديا حد الله هذا مرة أخرى وذاك مرة . والمرأة ووليها لما علموا بذلك وفعلوه كانوا متعدين لحدود الله فلم يحصل بالالتزام في هذه الحال انكفاف عن تعدي حدود الله ; بل زاد التعدي لحدود الله فترك التزامهم بذلك - وإن كانوا ظالمين غير تائبين - خير من إلزامهم به . فذلك الزنا يعود إلى تعدي حدود الله مرة بعد مرة .

                وإذا قيل : فالذي استفتى ابن عباس ونحوه لو قيل له : تب . لتاب ولهذا كان ابن عباس يفتي أحيانا بترك اللزوم كما نقل عنه عكرمة وغيره . وعمر ما كان يجعل الخلية والبرية إلا واحدة رجعية . ولما قال .

                قال عمر : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } . وإذا كان الإلزام عاما ظاهرا كان تخصيص البعض بالإعانة نقضا لذلك ولم يوثق بتوبته . فالمراتب أربعة . أما إذا كانوا يتقون الله ويتوبون فلا ريب أن ترك الإلزام - كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر - خير .

                وإن كانوا لا ينتهون إلا بإلزام فينتهون حينئذ ولا يوقعون المحرم [ ص: 424 ] ولا يحتاجون إلى تحليل . فهذا هو الدرجة الثانية التي فعلها فيهم عمر .

                والثالثة : أن يحتاجوا إلى التحليل المحرم فهنا ترك الإلزام خير .

                والرابعة : أنهم لا ينتهون بل يوقعون المحرم ويلزمون به بلا تحليل . فهنا ليس في إلزامهم به فائدة إلا آصار وأغلال لم توجب لهم تقوى الله وحفظ حدوده ; بل حرمت عليه نساؤهم وخربت ديارهم فقط . والشارع لم يشرع ما يوجب حرمة النساء وتخريب الديار ; بل ترك إلزامهم بذلك أقل فسادا وإن كانوا أذنبوا فهم مذنبون على التقديرين ; لكن تخريب الديار أكثر فسادا والله لا يحب الفساد .

                وأما ترك الإلزام فليس فيه إلا أنه أذنب ذنبا بقوله ولم يتب منه . وهذا أقل فسادا من الفساد الذي قصد الشارع دفعه ومنعه بكل طريق .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية